مقالات الرأي

دعوها فإنها منتنة

مرهف الشهاب
مجاز بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية

إنها الطائفية، إنها العرقية، أو الجهوية بمعنى أشمل هي العصبيّة أو نظام القرابة الممتد. هكذا نتحدث عنها وكأننا نكتشف شيئاً جديداً، وربما نعبر عن دهشتنا أو أسفنا حين نفعل ذلك. ندرك هذه الحقيقة كلما اندلعت حرب أهلية في مكان ما، أو فشلت ثورة، أو تعثرت تسوية سياسية بين طرفين، أو شهدنا انهيار حزب حديث أو انكماشه، أو كلّما أطلّت من وراء واجهة سياسية عصريّة المظهر ولاءات ضاربة في القِدَم

هذا الإدراك المتجدد يعود إلى أننا أنفقنا عقوداً نحاول إنكار وجود هذه العصبيّات، أو التقليل من أهميتها، أو إرجاعها إلى أسباب أخرى  فالرأي السائد في ثقافتنا يعزو الانقسامات إلى المستعمر الذي طبق سياسة “فرّق تسد”، أو إلى نقص الوعي والتعليم، أو إلى المصالح الطبقيّة التي تخشى اتحاد الجماهير. ومع ذلك، نبقى نؤمن بأننا إخوة، وأن نداء الأخوة سيُلبى عاجلاً أم آجلاً، فلا حاجة لمواجهة هذه المشكلة بجدية ،فتُوجه الجهود كلها نحو مقاومة الإمبرياليّة والصهيونيّة  وكل ما يُصنف كعدو خارجي.

هذا ما عبّرت عنه الحكمة المتداولة بصيغتيها الثورية والمحافظة، وظلّت تردده وتعيد تأكيده على مدى عقود طويلة، ولا تزال تكرر ذلك حتى اليوم.

على الجانب الآخر، قدمت الولايات المتحدة رؤيتها التبسيطية الخاصة: الديمقراطيّة والانتخابات منذ أحداث 11 أيلول 2001، وخاصة بعد غزو العراق في 2003، وهي تعزف على هذه المعزوفة : غياب الديمقراطيّة هو السبب وراء الإرهاب، وهو أيضاً سبب التخلف . إن تجربة العلاج بالديمقراطيّة أثبتت نجاحها في اليابان وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي دول أوروبا الوسطى بعد الحرب الباردة، فلماذا لا تحقق النجاح ذاته في العالم العربي؟ والهوامش على ذاك المتن كثيرة تجوّدها خصوصاً المنظّمات الدوليّة: تمكين المجتمع المدنيّ، تمكين المرأة، تمكين الشبيبة….

لا شك أن الديمقراطيّة وانتخاباتها وما يصاحبها من جهود تمكين، كلها مكاسب مهمة للدول التي تنعم بها، شأنها في ذلك شأن الاستقلال الوطني، وتطوير التعليم، وتقليص الفجوات الطبقيّة ، لكن التجارب العديدة في منطقتنا تُظهر أن العصبيّات غالباً ما تكون أكثر قدرة على الحد من هذه المبادئ أو تشويه تطبيقها، مقارنة بقدرة المبادئ ذاتها على السيطرة على العصبيّات أو تعديلها. هذا الأمر لا يرتبط بخصوصية حصرية للعالم العربي، إذ إن الهويات الفرعية تؤثر اليوم على العديد من البلدان حول العالم، بما في ذلك دول متقدمة ذات اقتصادات صناعية وما بعد صناعية.

لكن في منطقتنا، تعمل العصبيّات بشكل شبه منفرد، حيث تسيطر على المشهد بالكامل دون وجود منافس سياسي أو تقني أو اقتصادي وتنموي يمكنه مجاراتها. لا توجد أفكار حقيقية، ولا سياسات فعالة، ولا أحزاب قوية، ولا إدارات كفؤة، ولا صناعات أو بنى تحتية . هذا هو التحدي الأكبر الذي يفسد كل قيمة قد تنشأ في السياسة أو الوعي أو العلاقات الاجتماعية، والتي قد تشكل يوماً ما بديلاً لهذه العصبيّات، فالوطنية مثلاً لا تكتفي العصبيّات بجعلها صعبة التحقيق، بل تعمل على تقويضها من خلال تحالفات عابرة للحدود مع أفراد العصبيّة ذاتها في دول أخرى وكذلك الطبقيّة، بدورها، تُحرم من فرصة التبلور السياسي بسبب عرقلة العصبيّات لوعيها. أما التعليم، فإنه يتحول إلى وسيلة لإنتاج أفراد أكثر حداثة وكفاءة، لكنهم يكرسون هذه الكفاءات لخدمة العصبيّة التي ينتمون إليها. حتى الانتخابات، كما علمتنا مراراً تجارب العراق ولبنان، وليبيا والجزائر، تصبح مجرد أداة لإعادة تدوير العصبيّات وتعزيز استقطابها، مما يزيد من حدة المواجهات بين الجماعات المختلفة.

ويمكن إضافة نقطتين أساسيتين إلى هذا السياق، الذي يمكن وصفه بخديعة الإيديولوجيا الحديثة:

الإرث الاستبدادي في العديد من دول المنطقة، حيث تتوسع الفجوة بين الجماعات الأهلية، الأمر الذي يعيق قدرتها على التعبير عن ذاتها، ويدفعها بدلاً من ذلك إلى مزيد من التصلب والاحتقان.

الخضوع للتدخلات الخارجية نتيجة ضعف الداخل الوطني وعجزه عن التبلور ككيان متماسك ، وتزداد الأمور سوءاً عندما تكون القوى الخارجية المؤثرة غير ديمقراطيّة، أو حتى معادية للديمقراطيّة، وهو سيناريو يتكرر بشكل مقلق في المنطقة.

في ظل تداخل هذه العناصر وتشابكها، قد يكون من الصعب التأثير فيها ، ومع ذلك، يمكن على مستوى الثقافة السياسية البدء بالاعتراف بخطورة هذا الواقع والعمل على مواجهته والحد من تأثيره فإن تجارب الماضي، وما نعيشه من كوارث في الحاضر، وما يلوح من انسداد في آفاق المستقبل، كلها تدفع باتجاه هذا المسعى كما يجب التعامل مع العصبيّة بوصفها المحرّم الوحيد الذي يستحق الكسر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى