مقالات الرأي

حنان الرفاعي تكتب في داماس بوست: الديمقراطية وليدة التربية والتعليم وليست وليدة السياسة

يعدّ التعلّم أساس التطور ومفتاح الحضارة، ولن نصل إلى الحضارة والتطور إلّا من خلال نظام تعليمٍ ديمقراطي ، يبدأ من المنزل وصولاً حتى مراحل الدّراسة الأكاديميّة ، لذلك فإنّ العلاقة بين التعليم والديمقراطية هي علاقةٌ وثيقةٌ تتناسب طرداً فيما بينها، فالتعليم يحرر الإنسان من العبودية والجهل ، فلا يمكن للعملية الديمقراطية أن تنهض في ظل وجود الجهل والتخلف السائد في العديد من البلدان العربيّة ، فلن تصبح تلك البلدان تنافسيّةً في الديمقراطيّة ، إلا إذا بدأت باًلتفكير جديّا بتعليم كيفية احترام وجهات النظر المختلفة واحترام جميع آراء الآخرين منذ الصغر ، وعليه فإن التشجيع على الديمقراطية وتوطيدها من خلال أنظمة التعليم ، هو مفتاح للتحولات السياسيّة الجارية حالياً، وثمّة حاجة ملحّة لإصلاح العمليّة التعليميّة من أجل تعزيز وترسيخ الديمقراطية في عالمنا العربي .

فلماذا نرى حلم الديمقراطية يتحقق في بلدان العالم الحديث ولا نراه في بلداننا العربية؟ إنّه التعليم …. نعم التعليم .

نشأة التربية الديمقراطية

يقال بأن اللم في الصغر كالنقش على الحجر ، إنّ الديمقراطية التي لا تُلمَس منذ الصغر لن تُعرَف بعد ذلك ، ، فالديمقراطية ليست مسألةً سياسيةّ فقط بل مسألة تربوية بامتياز ، فإذا أراد مجتمعٌ ما أن يمتلك مستقبلاً مزدهراً بالديمقراطية ، وجب عليه غرس أسسها عند الأطفال أولاً ، وقد يرى البعض أنّه من الصعب أن يفهم الطفل ما معنى الديمقراطية ، لكنّ أي مفهوم له أفكار مختلفة حسب المراحل العمريّة يمكن ترسيخه من خلال تلك الأفكار ، ولكي يتم ترسيخ الديمقراطيّة منذ الصغر ،لابد أن يتم ذلك بدايةً ضمن إطار الأسرة ، وذلك من خلال تشجيع الطفل منذ الصغر على إبداء رأيه ، هنا تبدأ بذور الشجاعة بالنمو لدى الطفل ، ويتكون لديه أبرز ركيزة من ركائز الديمقراطية ، ألا وهي حرية التعبير ، فيما يقع على عاتق الأب أيضاً ألّا يقلّل من رأي الأم وقراراتها أمام أبنائه ، وهنا تتكون قيمة المرأة عند الطفل وأهميتها ، التي لا تقل عن أهمية الرجل ، والغاية من ذلك الأمر وضع حد للنظرة الذكورية في مجتمعاتنا .

تعليم الديمقراطية في المراحل الدراسية الأولى

ينتقل الطفل في هذه المراحل إلى الحياة المدرسة ، وفيها يحتك بأقرانه ، ويدخل مرحلة جديدة في حياته التعليمية ، فتنقسم هنا مهمّة التعليم الديمقراطي بين الأسرة والمعلّم ، فعلى سبيل المثال يتدرب التلاميذ على ممارسة الديمقراطية منذ دخولهم المدرسة ، ويتجلى ذلك في انتخاب عريف للصف ، ويتغير هذا العريف كل فترة من الزمن، ويقوم العريف السابق بتسليم المهمة للعريف الجديد ويحث هنا المعلم العريف القديم على تهنئة زميله بتعيينه عريفاً بديلاً عنه ، وبذلك يتم التداول السلمي للسلطة في غرفة الصف المدرسيّة.

نموذج آخر من أشكال التعليم الديمقراطي للطفل في المدرسة ، يكون ذلك عن طريق فرز الطلاب إلى مجموعات يتعرّفون من خلالها على بعضهم البعض ويناقشون أفكارهم ، وبذلك يتعلم الطفل كيفية احترام آراء الآخرين ، وتقبّل افكارهم .

على نحو آخر يقوم أسلوب التعليم بين المعلم والتلميذ على اساس الحوار ، ليمتلك الطفل القدرة على الإبداع والمشاركة والنقد ، فالمعلم قدوة لتلاميذه ، وممارسته للعدل والمساواة بين التلاميذ يعزز مفهوم الديمقراطية لديهم ، بالإضافة لقدرتهم على حل المشكلات الخاصة والعامّة ، وبذلك يحصل الطفل على مفاهيم ومعلومات ومهارات وقيم يستطيع من خلالها ممارسة الحياة الديمقراطية ، ولا بدّ من الإشارة في هذه المقام إلى نقطة مهّمة تعتبر من الأساليب التعليمية المؤثرة ، ألا وهي القصص المصوّرة ، فالكثير من الأطفال يعتبرون أن السياسة شيء ما يفهمه الكبار فقط ، لكن الحقيقة غير ذلك ، فمن الممكن هنا إيصال فكرة السياسة بطريقة مبسّطة إلى التلميذ كما فعل “غلوبي” شخصية الببغاء الكرتونية في القصة السياسية التي أبدعت في شرح مفهوم الديمقراطية للأطفال لمؤلفها “مارك تولينغر” الذي أبلغ في الشرح عن مفهوم الديمقراطية للأطفال من خلال تلك الشخصية ، فقصّ عليهم “غلوبي” الحكايات ، و اصطحبهم في الرحلات ، حيث كان يقوم في رحلاته بزيارة أشخاص يلعبون دوراً مهّماً في تطوّر الديمقراطية في سويسرا ، ويوضح “غلوبي” برحلاته آلية عمل المؤسسات السويسرية بطريقة مبسطة يفهمها الطفل ، وأصبح “غلوبي” حينها أشبه بسفير للديمقراطية ، ونموذج هذه القصة جعلت الطفل عندما يقرأها يعيش فكرة الديمقراطية ، ويعرف قواعدها بكل بساطة .

التعليم الديمقراطي في مرحلة الثانوية

تعد مرحلة التعليم الثانوية أشبه بالتربة التي نهيئها للزراعة ، فإذا أحسنا رعايتها وأعددناها الإعداد اللازم والصحيح ، أصبحت خصبة صالحة للإنبات ، وهنا نُسقط مثالنا على وجوب توفر مناخ ديمقراطي في هذه المرحلة ، فالطفل الصغير قد بدأ ينضج ، وأصبح في بداية سن الشباب ، ويرى نفسه قادراً على اتخاذ القرار الصحيح .

إنّ مهمّة ايصال الأفكار في مرحلة الشباب تختلف عن المراحل التي سبقتها ، فيتم ذلك عن طريق مشاركة أوسع في انتخابات مجلس الطلاب على سبيل المثال ، وعليه فإنهم يتدرّبون بشكل مطوّر أكثر على عملية الانتقال السلمي للسلطة في المدرسة ، ومن الأفكار التي تساعد في ترسيخ الديمقراطيّة في هذه المرحلة ، هي تأسيس نوادٍ ثقافية لمناقشة الأفكار السياسية للطلاب حول الديمقراطية ، ونستشهد مثالاَ على ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ، حين تمكنت إحدى الحملات الطلابية في عام 2019 لطلاب إحدى المدارس الثانوية على المجالس المحلية في ولاية كاليفورنيا من إقناع رئيس البلدية بتركيب مصابيح على طول الشوارع المؤدية إلى المدرسة لمساعدة التلاميذ على السير بأمان .

وقد تجسّدت أهمية التعليم الديمقراطي في مراحل الدراسة في كتاب “ديمقراطيّة التعليم” للكاتب علي عبد الرحيم صالح ، فاعتبر الكاتب فيه أن الديمقراطية أسلوب في الحياة وليست تطبيق سياسي قائلاً : ” ليست الديمقراطية شكل للحكومة إنما هي في أساسها اسلوب “الحياة المجتمعية والخبرة ”

التعليم الديمقراطي الأكاديمي وتأثيره على الشباب

يخطو الطالب بعد المرحلة الثانوية خطوة جديدة في المراحل التعليمية تجاه الحياة الأكاديمية ، ففي هذه المرحلة يؤكد الدكتور في علم الاجتماع والباحث الأكاديمي علي أسعد وطفة يؤكد حالة التدهور الديمقراطي داخل المؤسسات التعليمية في البلاد العربية من خلال دراسة أجراها حول ” التفاعل الأكاديمي بين الطلاب واعضاء هيئة التدريس في جامعتي دمشق والكويت على عينة عشوائية من الطلاب ، وتبيّن في الدراسة بأن الجامعات تعاني من انخفاض في وتيرة التفاعل بين الطلاب والأساتذة ، وتمثل العلاقات فيما بينهم ، علاقات اجتماعية متسلّطة وغياب الديمقراطية المتوازنة بين الأساتذة والطلاب ”

فكيف لنا أن نواجه هذه السلبيات ، ونغذّي هذا الجيل الطموح ليؤسس مجتمع ديمقراطي ؟

لمواجهة هذه السلبيات لا بدّ من تعزيز الحياة الديمقراطية في الجامعة التي تعتبر من أهم بيئات التفاعل الاجتماعي للطلبة ، وهي الأمينة على أهداف المجتمع ، فيترتب على هذه الجامعات تعزيز الديمقراطية لدى الطلاب ، عن طريق المشاركة الواسعة للطلبة في سياسة الجامعة وبرامجها ، بالإضافة لإدخال مواد أساسية في الجامعة تخص السياسة ومبادئ الديمقراطية ، وتسيير جلسات حوار حول أفكار الجيل الجديد ، وكيفية تكريس الديمقراطية في المجتمع ، وكيف لذلك الطالب المثقف الواعي أن يكون عنصر إيجابي ومؤثر في مجتمعه ، ونستذكر من مظاهر الديمقراطية في الأكاديميات التعليمية الاتحادات الطلابية المهتمة بتكريس الديمقراطية ، والتي تعتبر أحد أهم مظاهر العملية الديمقراطية في الأكاديميات ، بيد أن الكثير من الدول تعطيها أهمية خاصة ، حيث توفر الجامعة مناخ ديمقراطي مناسب لعملية الترشح والانتخاب لأعضاء الهيئة الطلابية ، وأن اختيار الطلاب بكل حرية لممثليهم وقائدهم إنما هو انتخاب سياسي مصغر عن الانتخاب الذي يمارسونه على مستوً أكبر في الاستحقاقات السياسية في بلدهم ، وإن الطلاب الذين يصلون إلى مناصب في جامعاتهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مسؤولون عن زملائهم الذين فوضوهم أمرهم ، ويترتب عليهم أن يحلّوا مشاكلهم وإيصال أصواتهم للإدارة ، واحترام رغباتهم والاستماع لشكاويهم وذلك يعتبر أول حجر أساس في الشخصية القيادية .

يظهر جليّا ًمن خلال ما استعرضناه سابقاً ، بأن العلاقة بين مجتمع متطور ومزدهر بالديمقراطية مع التعليم في المراحل التربوية و التعليمية علاقة مترابطة كعلاقة الجسد والظل ، وأن انتصار أي ثورة ديمقراطية في أي بلد كان مرهوناً بالمعركة العلمية والثقافية ، وأن التعليم الديمقراطي يعتبر شرطاً ضرورياً للتنمية المستدامة و محو الأمية الديمقراطية القابعة في بعض البلدان ، وأنّ الكفاح الديمقراطي ليس بالأمر السهل ، فهو يحتاج إلى وقت وصبر و رواد حقيقيون في هذا المجال يصونون امانة التعليم الديمقراطي وإيصال الرسالة للجيل الصاعد الذي يقع على عاتقه تأسيس المجتمع الديمقراطي .

بقلم: حنان الرفاعي

برنامج واثقون من قدرتنا على التغيير 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى