مقالات الرأي

باسل معراوي يكتب في “داماس بوست”: في الشمال… الحلُّ في الحلِّ

يعتبر داء التشتت والذي بالتأكيد هو نتيحة للعقل القبلي الذي ساد الثورة السورية وتحكّم بها وبمسيرتها والذي من المفترض أن لايتحكم بسيرورتها لأن كل الثورات أو حركات التحرر الوطني أو الحركات التي طالبت بمطالب محقّة والتي ابتليت بهذا المرض العضال انتهت ألى الموت الطبيعي أو السريري وذلك لعدم قدرة أو رغبة القائمين عليها على التشخيص أو محاولة ذلك على الأقل ووصف العلاج المناسب لشفائها.

ولولا امتلاك الثورة السورية لعوامل مناعة ذاتية وموضوعية لما استطاعت مقاومة دود الخل أو العوامل الخارجية التي ناصبتها العداء، من الطبيعي في الثورات التي تضطّر لحمل السلاح أن نرى عدة تشكيلات تعبّر عن إيديولوجيا معينة أو تنتمي لمنطقة معينة أو عرق معين ولكنها تصبو إلى تحقيق نفس الهدف فيمكن لها تحقق حدود مقبولة من الانسجام تحت مظلة واحدة وتبتكر طرق لحل خلافاتها أو تضييقها إلى أقصى حد ممكن.

لم ترتق الفصائل العسكرية السورية والتي تشكلت في البدايات وتسلّحت للدفاع عن المتظاهرين السلميين من العسف والقوة والعنف المفرط التي واجه النظام بها تلك الحشود المدنية والتي لاتملك إلا حناجرها وسواعدها والمطالبة بالتغيير، كان طبيعيا أن تكون تلك التشكيلات العسكرية البسيطة التسليح والتنظيم والتدريب والكفاءة أن تحمي متظاهرين في حي أو قرية.

ولكن بفعل انسحاب قوات النظام من كثير من المناطق التي تسيطر عليها بفعل عدم قدرتها على الاحتفاظ بالسيطرة عليها أو رغبة في الانسحاب من الأطراف والتجمع في المراكز والتمترس بها وتنظيم دفاعهاتها بشكل أفضل.

نشأ عن ذلك الانسحاب أو الانكفاء خروج مساحات واسعة من الأرياف والقرى والبلدات ووصل إلى المدن الكبرى أو بعض أحيائها وبالتالي وجدت تلك الفصائل المشكلة حديثا أنها أمام مهام لم تتصور أنها تقوم بها أو تملك الكوادر والكفاءات لذلك، وهي بالأساس لم تتشكل من أجل ذلك، وجدت نفسها أمام واقع جديد يتوجب إعادة إملاء فراغ السلطة التي كان غيابها مفاجئا (وأحيانا مقصودا).

ليس أمرا سهلا إدارة شؤون السكان والقيام بأعباء الحكم المحلي كالاهتمام باستمرار العملية التعليمية وإدارتها وادارة القطاع الصحي والأمني والقضائي وكافة المهام أو الخدمات التي تقوم بها مؤسسات وأجهزة الدول.

لم يكن المجتمع المحلي قابلَا لسلطتهم نظرا لعدم امتلاكهم لأي كفاءة مهمة (حيث استهدف النظام كل الكفاءات المدنية قتلا أو اعتقالا أو تهجيرا) أو عدم رغبة الفصائل في الإعتماد على كوادر مدنية فعّالة، وامتلاك تلك الفصائل المشكلة حديثا والتي كانت تنتشر كالفطر في كل منطقة ينكفئ عنها النظام.

بدأت شهوة الحكم والسلطة تراود الكثير ممن وجد نفسه فجاة يحكم منطقة بعد أن كان محروما في ظل النظام من أبسط حقوقه وكانت الذراع الامنية للنظام تطال الجميع حتى في بسطة خضار يعتاش منها أي رب أسرة ويتم قمعه بشكل متكرر ومصادرة بضاعته وربما ضربه.

لاشك أن كثير من الفصائل العسكرية قد نجحت عسكريا في مواضع كثيرة وتفوّقت على تشكيلات عسكرية مدربة ومسلّحة ومنظّمة لقوات النظام بل دحرته إلى أقل من ربع مساحة الجغرافية السورية… وليس ذلك بقوة سلاحها أو توحّدها أو امتلاكها لرؤية أوخطة متفق عليها بل بإخلاص بعض من كان فيها والضعف الذاتي الذي أبدته قوات النظام في المواجهات رغم امتلاكها للتفوق البشري والتسليحي.

كانت المكاسب والمناصب على الأرض تمنع أي اندماج أو توّحد ببن فصائل تنتمي لحي واحد في مدينة أو قرية صغيرة مع عدم وجود أي موانع إيديولوجية أو عرقية أو طائفية تمنع ذلك إذ كان شائعا أن نرى عدة أشقاء منتمين لعدة فصائل متنافسة ويمكن أن تكون متناحرة.

إضافة لهذا السبب المحلي فإنه لايمكن إغفال العامل الخارجي حيث كان التمويل والدعم الخارجي يسهم طبيعيا (وأحيانا عن قصد) بعدم اندماج تلك المجموعات العسكرية وتشكيلها أجساما اكبر وأكثر فاعلية بحيث تتجمع الجهود وتصب بنفس الاتجاه.

كانت الشرذمة الفصائلية العسكرية المحلية من أهم اسباب تمدد الجماعات الإرهابية الكبرى (داعش والنصرة)…فهذه الجماعات الكبرى والمنظمة جيدا والمسلحة عقائديا وبعتاد متفوق نسبيا على الفصائل المحلية والمدعومة ماليا واستخباراتيا والمستثناة من هجمات القوى المتدخلة والتي تدّعي محاربتها، تمكنت تلك الجماعات من ابتلاع كل الفصائل المحلية، ولم تتآزر تلك الفصائل مع بعضها بل وقفت تتفرج على التهام منافسيها وأحيانا مساعدة الغول الثور الأسود على التهام فرائسه حتى يحين دورها.

حيث اجتاح تنظيم “داعش” القادم بشكل رئيسي من الشرق كل ماصادفه أمامه من تشكيلات فصائلية إلى أن وصل الى حدود مدينة حلب وأطراف السويداء وابتلع كل فصائل البادية السورية، وبنفس المنهج واختلاف الظروف تمكن تنظيم جبهة النصرة من تطبيق نفس الخطة وأمام أعين الفصائل المحلية التي لم تع الدرس مما حلّ بمثيلاتها على يد تنظيم داعش.

حتى وصل به الحال إلى كونه الفصيل الأكبر أو الأوحد في أهم وآخر معاقل الثورة في إدلب.

بعد انطلاق مسار أستانة وتجميع الفصائل المختلفة في الشمال السوري بعد أن تم احتلال مناطق سيطرتها، فمنها من اندثرت وأصبحت من الماضي بفعل بنيتها المناطقية الهشة وعدم وجود إيديولوجيا أو عصبية تجمعها فأصبحت من التاريخ، ومنها من حافظت على بقائها واستمرت بنفس أسمائها وكوادرها ومقاتليها الذين أجبروا على ركوب باصات الترحيل، ومنها تشكلت حديثا من تجميع لمقاتلين محليين وبشكل خاص تم تأسيسها بشكل متزامن مع انطلاق أولى العمليات التركية المباشرة في الشمال لتكون ذراعا وطنيا للامساك بالأرض بعد طرد ميليشيات “داعش” أو “قسد” بعد تحريرها.

وباستثناء مناطق إدلب وحلب التي تسيطر عليها جبهة النصرة فإن مناطق النفوذ التركية الثلاث غصن الزيتون ودرع الفرات ونبع السلام هي مكان تواجد تلك الفصائل والتي تم دمجها صوريا تحت عباءة جسم هلامي تم تسميته بالجيش الوطني يتبع صوريا لوزارة دفاع في الحكومة السورية المؤقتة، ويرتبط ذلك الجيش بالإدارة التركية ماليا وتنظيميا وتسليحيا وتحديد قواعد الاشتباك على الجبهات مع قوات النظام والميليشيا الايرانية وقوات قسد.

ومن أسباب عدم توّحد الفصائل عمليا من المفترض زوال العامل الخارجي المتمثل بالداعم وسياساته وأجنداته، واقتصار الدعم على الطرف التركي كجهة وحيدة.

لم تبق العوامل المحلية المعيقة للاندماج بين الفصائل بل ازدادت رسوخا بفضل الهدوء النسبي وأحيانا المطلق لجبهات القتال وتغول تلك الفصائل على المجتمع المحلي واستئثارها بمصادر الثروة والنشاط الاقتصادي والفساد المالي والإداري وامتلاكها للسلطة على المعابر الداخلية والخارجية، والأنكى من ذلك إنشاء إمارات أو قطاعات تمتلك أجهزة أمنية وسجون وتسيطر بالوكالة على القضاء.

وربما تكون حادثة اغتيال الناشط والإعلامي محمد أبو غنوم والتي فجّرت كل تلك التناقضات المكبوتة بين الفصائل فيما بينها وبين كل تلك الفصائل والجمهور، مايتوجّب على الأخوة الأتراك فعله الآن، بعد أن بدأنا نسمع عن وجود خطة أو توجّه تركي لتغيير طريقة التعامل السابقة والتي أثبتت فشلها، والنية الآن على مايبدو الى حلّ كل التشكيلات الفصائلية بشكل تدريجي والعمل على تشكيل هيكل مجلس عسكري واحد يشرف على تشكيل جسم عسكري موحد من العناصر الجيدة والصالحة (وهي كثيرة)، من شتى الفصائل الحالية تحت إشراف ضباط عسكريين منشقين محترفين، سواء كانوا في تركيا أو خارجها أو العاملين حاليا ضمن الفصائل على الأرض، ووضع قواعد لذلك التشكيل المرتجى بعيدا عن المناطقية والعشائرية وأي رابط آخر، والاهتمام بعامل الكفاءة والنزاهة للأفراد والقادة
.ويقدّر المختصون العدد المطلوب وبنفس الكتلة المالية التي كانت مخصصة لهم والاهتمام بالتدريب والتأهيل والانضباط وعدم التدخل بالحياة المدنية والالتفات لحماية الحدود والنظام العام.

وبالتأكيد سيترافق ذلك مع تشكيل إدارة مركزية موحدة أمنية وشرطية تحظى بتقدير الأهالي وتطوي صفحة الفلتان وأمنيات الفصائل وممارساتها، وبالتأكيد سيخضع الجسم العسكري الجديد إلى سلطة سياسية تقوده ممثلة بالحكومة المؤقتة، وكل ذلك لتقديم نموذج حوكمة مقبول (بالتضافر مع جهاز مدني نظيف) يحظى بالرضى الداخلي أولا والخارجي ثانيا بانتظار انقشاع الغيوم الملبّدة عن الحل السياسي المنشود والذي سيطوي مرحلة الاستبداد الأسدي الى الأبد وتثمر تضحيات جمهور الثورة والسوريين عموما على سوريا الدولة المدنية الديمقراطية للبدء بإعمار النفوس وردم الشروخ المجتمعية والبدء بإعمار سوريا الاقتصاد والحضارة.

د.باسل معراوي

الأفكار الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “داماس بوست”

د. باسل معرواي

باحث وكاتب في الشأن السوري ومحلل سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى