“المقاتلون الأجانب في سوريا: عبء الثورة أم شركاء الدولة؟”

بقلم: أ. بلال محمد الشيخ _ سياسي سوري
الأربعاء 23/أكتوبر/2025 م
في تطور لافت يعكس تغيراً في نهج الدولة السورية تجاه ملف المقاتلين الأجانب، شهدت منطقة حارم في ريف إدلب عملية أمنية استهدفت معسكر «كتيبة الغرباء» المعروفة بالكتيبة الفرنسية، بقيادة الجهادي الفرنسي عمر ديابي، المعروف باسم عمر أومسين.
هذه العملية، التي جاءت استجابة لشكاوى أهالي مخيم الفردان بشأن انتهاكات جسيمة، مثل خطف فتاة من والدتها، تمثل أول مواجهة معلنة تخوضها السلطات الجديدة ضد عناصر جهادية أجنبية، منذ الإطاحة بنظام المخلوع بشار الأسد. بحسب قائد الأمن الداخلي في إدلب، غسان باكير، فإن ديابي رفض تسليم نفسه، وتحصّن داخل المخيم، مستخدمًا المدنيين كدروع بشرية، ما دفع القوات السورية إلى فرض طوق أمني ونشر نقاط مراقبة لتأمين المداخل والمخارج.
هذا التصعيد الأمني تزامن مع حالة تأهب في صفوف المقاتلين الأجانب، وتداول بيانات من مؤسسات جهادية ترفض اعتقال الفرنسيين، ما ينذر بإمكانية اندلاع مواجهات أوسع في إدلب.
الباحث عباس شريفة وصف العملية بأنها ذات طبيعة جنائية وليست سياسية، مشدداً على أن المقاتل الأجنبي ملزم باحترام قوانين الدولة السورية، وأن أي انتهاك يستوجب المحاسبة، كما حصل في قضية الإيغوري أبو دجانة، الذي اعتُقل بسبب نشاط إعلامي يضر بأمن الدولة.
لكن هذه الرواية الرسمية لا تلغي البعد السياسي للحدث، خاصة في ظل تقارير عن رغبة فرنسية في تسلّم بعض مواطنيها، واتهامات من عمر أومسين بأن التهمة دُبرت بالتنسيق بين المخابرات الفرنسية والأمن السوري.
هذا التداخل بين الجنائي والسياسي يعكس تعقيد الملف، ويطرح تساؤلات حول قدرة الدولة السورية على ضبطه دون الوقوع في فخ التدويل أو التصعيد. فرقة الغرباء، التي تضم نحو 150 مقاتلًا ناطقاً بالفرنسية، بينهم أكثر من 70 فرنسياً، لم تنضم إلى الجيش السوري الجديد، وتواجه اتهامات بالاحتجاز القسري والتعذيب، ما يزيد من حساسيتها في المشهد الأمني.
في هذا السياق، لا يمكن فصل العملية عن محاولة الحكومة الجديدة، بقيادة السيد الرئيس أحمد الشرع، لتبني صورة أكثر اعتدالاً أمام المجتمع الدولي، دون التخلي عن عناصر قاتلت إلى جانبه ضد النظام البائد. هذا التوازن بين الاعتراف والتصفية، بين السيادة والانفتاح، وبين القانون والسياسة، هو ما يجعل ملف المقاتلين الأجانب في سوريا أكثر من مجرد قضية أمنية، بل عقدة استراتيجية تتطلب رؤية وطنية جامعة، وإرادة سياسية حازمة، وحوار داخلي صريح حول معنى الانتماء وحدود التسامح.
لاشك بأن اندماج الأجانب في المجتمع السوري لا يزال قضية خلافية، تتراوح بين من يعتبره ضرورة واقعية بعد سنوات من التعايش والقتال المشترك، ومن يراه تهديدًا للهوية الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي. فبعض المهاجرين، خصوصًا من الجنسيات الشيشانية والأوزبكية، انخرطوا في الحياة المدنية، وتزوجوا من سوريات، وشاركوا في مشاريع تعليمية أو إغاثية، ما جعلهم جزءاً من المشهد المحلي في بعض مناطق الشمال. لكن هذا الاندماج لم يكن دائماً سلساً، إذ يواجه رفضاً شعبياً في بعض الأوساط، خاصة حين يرتبط بعناصر ذات خلفيات جهادية متطرفة أو سجل أمني مثير للجدل.
وجود الأجانب في الجيش والأمن يثير تساؤلات أكثر حساسية، إذ تشير تقارير إلى أن بعض المهاجرين تمت دراسة تجنيسهم ومنحهم رتباً عسكرية أو أمنية، ما يفتح الباب أمام اختراقات محتملة أو ولاءات غير وطنية. هذا التداخل بين الانتماء العقائدي والانخراط المؤسسي يضع الدولة أمام تحدي ضبط الهياكل الأمنية، وضمان أن تكون خاضعة لسلطة وطنية واضحة، لا لتوازنات داخلية أو ضغوط خارجية. كما أن غياب الشفافية في آليات التجنيس والتعيين يعمّق من أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع، ويغذي المخاوف من إعادة إنتاج الانقسامات تحت غطاء رسمي.
وجود عقوبات على شخصيات مهاجرة، مثل عمر أومسين أو أبو دجانة الإيغوري، يعكس بداية تحول في سياسة الدولة تجاه هذا الملف، من التسامح أو التجاهل إلى المحاسبة القانونية. لكن هذه العقوبات لا تزال انتقائية، وغالباً ما ترتبط بملفات جنائية أو ضغوط دولية، لا برؤية وطنية شاملة. فغياب إطار قانوني واضح يحدد وضع المقاتلين الأجانب، ويصنّفهم بين مدنيين ومقاتلين، بين من يستحق الدمج ومن يجب أن يخضع للمساءلة، يجعل العقوبات عرضة للتسييس أو التوظيف المرحلي.
مستقبل العلاقات الدولية مع دول المهاجرين الأم، مثل فرنسا، ألمانيا، أو دول آسيا الوسطى، سيتأثر بشكل مباشر بكيفية تعامل سوريا مع هذا الملف. فرفض هذه الدول استقبال مواطنيها، أو اشتراط محاكمتهم دولياً، يضع الدولة السورية في موقف حرج، بين الحفاظ على السيادة، وتلبية المطالب الدولية، وتجنب التصعيد الدبلوماسي. كما أن أي خطأ في إدارة هذا الملف قد يؤدي إلى توتر في العلاقات، أو فرض عقوبات، أو حتى تدخلات أمنية غير مباشرة تحت غطاء إنساني أو قضائي.
سبل حل هذه القضية والخيارات المحتملة تتطلب رؤية استراتيجية متماسكة، تبدأ بإنشاء لجنة وطنية مستقلة لتصنيف المقاتلين الأجانب، وتحديد وضعهم القانوني، ومراجعة ملفاتهم الأمنية والإنسانية. يمكن اعتماد نموذج متعدد المسارات: الترحيل لمن تسمح دولهم بذلك، المحاكمة لمن ارتكبوا جرائم، وإعادة الدمج المشروط لمن ثبت عدم تورطهم في انتهاكات. كما أن فتح حوار مجتمعي حول معنى الانتماء، وحدود التسامح، وآليات المصالحة، سيكون ضرورياً لتجنب الانفجار الداخلي، وتحقيق الاستقرار الحقيقي. فالمطلوب ليس فقط إدارة الملف، بل تحويله إلى فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والسيادة والشفافية.



