مقالات الرأي

طيش البوصلة عند المفكر الاستراتيجي

خالد الدغيم – إعلامي سوري

في عالم يعج بالتحديات والتحولات السريعة، يُنظر إلى المفكر الاستراتيجي كشخصية محورية تمتلك رؤية ثاقبة وقدرة على توجيه الأحداث في الاتجاه الصحيح. لكن في أحيان كثيرة، قد نجد أن هذا المفكر يفقد بوصلته، وتضيع منه الاتجاهات الصحيحة. فما الذي يدفع المفكر الاستراتيجي إلى هذا الاضطراب؟
وما هي العوامل التي تؤدي إلى ضياع الرؤية والفكرة؟

1. الضغوط السياسية والاجتماعية وتأثيرها على المفكر:

تعد الضغوط السياسية والاجتماعية من أهم العوامل التي قد تؤدي إلى ضياع البوصلة عند المفكر الاستراتيجي. فقد يجد نفسه محاصرًا بأجندات سياسية تتطلب منه الانحياز إلى جهة معينة أو دعم موقف محدد، ما يضعه في حالة من التوتر والارتباك. وفي كثير من الأحيان، يشعر المفكر بالخوف من ردود فعل المجتمع، خاصة إذا كانت توجهاته لا تتماشى مع التيار السائد. هنا يظهر صراع داخلي بين ما يؤمن به وما تفرضه عليه الضغوط السياسية والاجتماعية.

الخوف من فقدان المكانة الاجتماعية أو الشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يزيد من حدة هذا الاضطراب. حيث يصبح المفكر حريصًا على إرضاء جمهوره والحفاظ على متابعيه، حتى وإن اضطر إلى تعديل مواقفه أو التخلي عن بعض قناعاته. وهذا الخوف من الخروج عن السياق الاجتماعي يجعل المفكر غير قادر على اتخاذ قرارات جريئة، مما يفقده القدرة على الابتكار والتغيير.

2. التأثير المالي وفقدان الاستقلالية الفكرية:

من العوامل المؤثرة بشكل كبير على تفكير المفكر الاستراتيجي هي المصالح المالية. فعندما يرتبط المفكر بجهات داعمة، سواء كانت حكومات، شركات، أو منظمات، يجد نفسه ملزمًا بخدمة تلك المصالح، ما يضعف من قدرته على التفكير بحرية واستقلالية. المال يمكن أن يكون دافعًا قويًا لإعادة تشكيل الأفكار والمواقف، بل وفي بعض الأحيان، يصل الأمر إلى بيع الضمير والتنازل عن الشرف من أجل الحفاظ على الامتيازات والدعم المالي.

هنا يواجه المفكر تحديًا كبيرًا: هل يحافظ على مصداقيته ويمتنع عن بيع أفكاره ومواقفه؟ أم يستسلم للضغوط المالية ويضحي بمبادئه في سبيل استمرارية الدعم المادي؟ هذه المعادلة الصعبة تجعل المفكر يبتعد تدريجيًا عن رؤيته الأصلية، ويتحول إلى أداة لتنفيذ سياسات الجهات الداعمة، مما يؤدي إلى فقدان ثقة الجمهور بمصداقيته.

3. التناقض بين الولاءات وتعدد الجهات الداعمة:

عندما يكون للمفكر الاستراتيجي ارتباطات مع أكثر من جهة داعمة، سواء بالمال أو النفوذ، فإنه يجد نفسه أمام تحدٍ كبير يتعلق بالتوازن بين هذه الولاءات المتعددة. قد يضطر إلى تغيير موقفه بشكل متكرر، والتلاعب بأفكاره لخدمة المصالح المختلفة، ما يؤدي إلى تشويش رؤيته وضياع بوصلته الفكرية. هذا التناقض في الولاءات يجعل المفكر يبدو متقلبًا وغير ثابت في مواقفه، وبالتالي يفقد الثقة التي بناها مع جمهوره.وحينها يكون في أغلب وقته مصاب بالهلوسة الموسيقية على ألحان ( رقصني يا جدع)

4. الرغبة في كسب التأييد عبر وسائل التواصل الاجتماعي:

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، يسعى العديد من المفكرين إلى تعزيز حضورهم وجذب المزيد من المتابعين. هذا السعي يمكن أن يتحول إلى فخ يُبعد المفكر عن قناعاته الحقيقية. حيث يصبح هاجسه الأساسي هو كسب تأييد الجمهور، حتى وإن كان ذلك يتطلب منه التضحية بمبادئه أو التنازل عن مواقفه. يصبح المفكر هنا أسيرًا لآراء الآخرين وتوجهاتهم، بدلاً من أن يكون قائدًا للفكر وصانعًا للرأي.

5. التلاعب الفكري: بيع الضمير والشرف:

قد يصل الأمر ببعض المفكرين إلى حد التلاعب الفكري الواضح، حيث يقومون بترويج أفكار ومواقف يعلمون تمامًا أنها لا تخدم المصلحة العامة، وإنما تخدم مصالحهم الشخصية أو مصالح الجهات التي يرتبطون بها. هذا التلاعب يظهر بوضوح في الخطابات المتناقضة والمواقف المتغيرة. وعندما يفقد المفكر ضميره ويبيع شرفه الفكري، يتحول من شخص ذي رؤية إلى مجرد أداة تستخدمها الجهات الداعمة لتحقيق أهدافها الخاصة.

6. النتيجة: ضياع البوصلة وفقدان المصداقية:

عندما تتراكم هذه العوامل وتتشابك، يفقد المفكر الاستراتيجي بوصلته، ويصبح عاجزًا عن اتخاذ قرارات مستقلة أو تقديم رؤى ثاقبة. يبتعد عن المبادئ التي يؤمن بها، ويتحول إلى صوت للآخرين بدلًا من أن يكون قائدًا للرأي. هذا الضياع يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان المصداقية، ليس فقط عند الجمهور، بل أيضًا عند المفكر نفسه، حيث يجد نفسه في صراع داخلي مع تناقضاته وأفعاله.

وأخيراً:
إن تضييع البوصلة عند المفكر الاستراتيجي هو نتيجة تراكمية لضغوط متعددة، تبدأ بالسياسية والاجتماعية، وتمر بالعوامل المالية وتعدد الولاءات، وتنتهي برغبة كسب التأييد عبر وسائل التواصل الاجتماعي. المفكر الحقيقي هو من يستطيع أن يحافظ على استقلالية فكره رغم كل هذه الضغوط، وأن يبقى مخلصًا لقناعاته ومبادئه، حتى وإن كان ذلك على حساب مكانته الاجتماعية، أو مصالحه الشخصية، أو حتى تعرضه للنقد والهجوم. فالمفكر الحقيقي يضع الحقائق والمبادئ فوق كل اعتبار، ويملك الشجاعة الكافية للوقوف ضد التيارات المتلاعبة، محافظًا على وضوح رؤيته واستقلاليته الفكرية. بهذا وحده يستطيع أن يكون قائدًا للفكر وصوتًا للحق في زمن تكثر فيه المغالطات والخداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى