إيران .. تلك الجغرافيا التي احتضنت عبر التاريخ الإسلامي معظم القوى المناوئة للإسلام والمعادية للمسلمين ولحضارتهم، فكانت مهد الأفكار الباطنية والمذاهب الضالة المضلّة، والحركات السياسية المنحرفة التي امتهنت إثارة الفتن بين المسلمين وافتعال الاضطرابات في بلادهم، والتحريض الدائم ضد دولتهم المركزية (الخلافة)، والعمل ضد جميع الدول القائمة على عقيدة أهل السنة والجماعة بعد ذلك، وبعد أن ظلّت على هذا الحال لقرون عديدة منذ الفتح الإسلامي وحتى نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، تطور الأمر لتصبح إيران المركز الجغرافي والعمق البشري لعدة دول متعاقبة تبنّت بشكل واضح وأساسي المذهب الشيعي الإثني عشري كعقيدة دينية ومرجعية سياسية للدولة، وذلك بعد تأسيس الدولة الصفوية على يد الشاه إسماعيل الصفوي، والذي فرض بدوره التشيّع على أهل فارس وخراسان بالإكراه والقوة، فارتكب المجازر بحق الأكثريّة السنية في إيران حينها، وأعدم علمائهم وشيوخهم وكل من رفض القبول بالمذهب الجديد أو عارضه، ومن ثم فعل الأمر نفسه في العراق بعد سيطرته عليه، ومنذ ذلك الحين اتبعت الدول الحاكمة لإيران وما حولها المنهج نفسه في تشييع الناس قهراً، واضطهاد الرعايا من أهل السنة والجماعة بالقتل أو التشريد أو الحرمان من كل الحقوق الدينية والمدنية والسياسية.
ولم تكتفِ الإمبراطوريات والدول الشيعية التي تأسست في إيران منذ القرن الخامس الهجري بمحاربة العقيدة الإسلامية الصحيحة والمذهب القويم داخل أراضيها فحسب، بل أصبحت العدو الدائم لكل الدول السنيّة المحيطة بها، وعلى رأسها الدولة العثمانية، فشنّت ضدها الحروب التي شغلت العثمانيين عن فتوحهم في أوروبا وأوقفت زحف جيوش الفتح نحو العواصم الأوروبية، ولطالما سعت الدول الإيرانية المتعاقبة لاحتلال العراق وتغيير هويته الدينية والمذهبيّة والقومية، فقد أرادوا وحاولوا بشكل متواصل جعل العراق امتداداً للنفوذ الفارسي والهيمنة الشيعية على كافة نواحي الحياة الدينية والدنيوية.
ليس هذا فحسب، بل إن من اللافت أن جميع الحركات والدول التي اعتنقت المذاهب الشيعية المختلفة، وتبنّت نشر هذا المذهب دينياً وسياسياً، لم تنشغل يوماً من الأيام إلا بحرب وقتال المسلمين فقط دون غيرهم، فليس لها باعٌ في الفتوحات الإسلامية في أي مكان، ولم يقاتلوا يوماً تحت راية الإسلام والأمة ضد أعدائهما، بل على العكس تماماً، فمن المعروف أن الحركات الباطنية والدول الإيرانية ذات التوجه الفارسي الشيعي دأبت على محالفة وموالاة غير المسلمين ضد المسلمين، وذلك منذ الحلف الذي عقده الصفويون مع الغزاة البرتغاليين ضد الخلافة العثمانية، وذلك في وقت كانت تجاهد فيه الجيوش والأساطيل العثمانية لحماية سواحل الجزيرة العربية والخليج العربي من غارات البرتغاليين. وحتى الآن مازالت هذه الدول الرافضيّة في إيران تدخل في التحالفات واتفاقيات التعاون مع القوى الغربية الاستعمارية والغازية، ومع جميع القوى المناوئة للإسلام والمسلمين السنّة داخل العالم الإسلامي وخارجه، وسيلاحظ كل مؤرخ وقارئ للتاريخ بموضوعية أن سلوك إيران لم يتغير عبر تاريخها رغم تغير وتبدّل دولها وتغيّر أشكال حكمها. فإيران الصفوية والإفشارية والقاجارية، هي نفسها إيران البهلويّة (العلمانية)، وهي نفسها إيران الثورة (الإسلامية) والخميّنية، فهدفها ثابتٌ لا يتغير ولا يتحول، وهو توسيع رقعة السيطرة الفارسية والهيمنة الشيعية في الشرق الأوسط، على حساب المسلمين السنة في البلاد المجاورة كالعراق والشام وأفغانستان وتركستان وغيرها، وقد سعت دائماً لتدمير حواضر العرب والمسلمين، وبالتالي استئصال مراكز الحضارة العربية الإسلامية من مهدها.
إن الفرس -الذين لم يقبلوا الدخول في الإسلام بعد الفتح الإسلامي- تحسّروا على مجدهم الإمبراطوري الزائل وتراثهم الكسرويّ القديم، فلمّا لم يسعهم مقاومة الإسلام بالمناظرة والمحاججة أو بالسيف والمنازلة، سلكوا الطرق الباطنية التي اعتادوها واتبعوا مذهب التقيّة الذي يفضله المنافقون، واتخذوا من المظلومية المختلقة لآل البيت درعاً يحاججون به المسلمين، وجعلوا أنفسهم أوصياء على هذا الثأر الباطل ليقاتلوا باسمه وتحت رايته أهل السنة والجماعة ويقتلونهم. فاستطاعوا معاداة الإسلام باسم الإسلام، وقاتلوا المسلمين تحت ستار الدين، واستمروا منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا في عدواتهم وبغيهم على أهل الإسلام، والتآمر على الأمة والغدر بها وموالاة أعدائها.
والحقيقة أن حقد إيران الذي نشاهده اليوم على عواصم وحواضر الحضارة العربية الإسلامية كدمشق وبغداد وحلب والموصل والبصرة والقدس وصنعاء وغيرها، ليس مستغرباً ولا مستنكراً، فالشعوبيون الفرس والروافض عموماً يعتبرون أن تلك المدن والعواصم هي التي أطفأت شعلة حضارتهم الكسروية وسرقتها – بزعمهم -، ومنها انطلقت من جيوش الفتح، ودرس فيها وخرج منها علماء الأمة وأعلامها من الفقهاء والدعاة والأئمة الذي دافعوا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة ومذهب أهل السنة والجماعة، ونقضوا الضلالات المنتشرة ودحضوا إدعاءات المذاهب المنحرفة وفضحوا الفرق المنافقة والفاسقة، ولذلك فإن ما نشهده اليوم من جرائم إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان، واحتلالها لعواصم تلك البلدان بعد تدميرها وقتل وتهجير أهلها، ليس إلا تجسيداً لهذا الحقد القديم والمتجدد الناتج عما يمكن أن نسميه (الحسد) الحضاري والنقمة التاريخية المتوارثة.
لعل الأمر الوحيد الذي يتغير جزئياً في السياسة الإيرانية هو الذريعة التي تنفذ إيران من خلالها مشروعها التوسعي على حساب العرب والمسلمين، فإذا كانت إيران تقاتل تحت راية التشيع ومظلومية آل البيت وأحقيتهم بالخلافة والإمامة خلال القرون الخمس الأخيرة، فإنها وبعد الثورة الخمينية عام 1979، وتأسيس نظام الولي الفقيه الذي قام بتسييس التشيّع وعسكرته بشكل واضح ومعلن، قد رفعت شعار (تصدير الثورة) لنشر ودعم التشيع إقليمياً وعالمياً بكافة الوسائل الممكنة، والتي غالباً ما تكون وسائل خبيثة ومدمرة وغادرة، كحروب الوكالة التي تخوضها عبر أذرعها الطائفية في البلدان العربية، وبالتحالف مع قوى الاحتلال والمشاريع المعادية للإسلام والمسلمين، وبالتوازي مع ذلك، وتماشياً مع المنهج الباطني ومذهب التقية رفعت إيران شعار (المقاومة والممانعة) ضد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، وصدّرت نفسها كأول مدافع عن القضية الفلسطينية وكدولة قائدة للعالم الإسلامي على طريق تحرير القدس. ولكن هذا ما تردد على ألسنة قادة إيران وزعماء التيارات وقادة الحركات الموالية لها في العالم العربي فقط، دون أن يكون لها من الفعل والعمل والتطبيق أي نصيب، وقد انكشف زيف ادعاءات نظام الملالي منذ بداية تأسيسه عندما وجه بندقيته أوّل ما وجه نحو جارته العراق، وادعى أن طريق تحرير القدس يبدأ من بغداد! فبدأ المسير في ذلك الطريق الذي مرّ في كافة العواصم العربية فدمرها وهجّر أهلها ولم يصل إلى القدس بعد! وبالطبع فلن يصل أبداً ! إن كل مؤمن يبصر بفراسة الإيمان وينظر بعدسة التاريخ، ويقرأ الأحداث بعقل واعٍ وضمير يقظٍ ويتحلى بالمسؤولية الدينية والأخلاقية أمام الله تعالى وأمام الأمة، يوقن جازماً أن ما يسمى (محور المقاومة والممانعة) كان ومازال محور الشر والظلم والقتل والإجرام، وأن مقاومته زائفة وممانعته باطلة، فلم يقاوم سوى المسلمين السنّة، ولم يمانع سوى مشاريع التحرير والنهضة في بلاد المسلمين، ولم يقاتل بحق أعداء الله ورسوله والمؤمنين يوماً، ولا اشتبك معهم، ولم يقدم لفلسطين شيئاً يُذكر، فقد اقتصر دعمه الذي لا يثمن ولا يغني من جوع على القدر الذي يكفي لتمويل تجارته بالقضية الفلسطينية إعلامياً وسياسياً، وبالتالي شرعنة تدخله واحتلاله للدول العربية، ونشر التشيع الديني والسياسي تحت عباءة المقاومة الزائفة ومحاربة أذرع أمريكا والصهيونية من الحركات والدول، والمقصود بها طبعاً جميع دول وحركات المسلمين السنة بلا استثناء!
فإيران دخلت العراق على ظهور الدبابات الأمريكية واحتلته عن طريق ميليشياتها الطائفية الموالية لها، وارتكبت فيه أبشع المجازر والاغتيالات الجماعية وجرائم التغيير الديموغرافي بحق أهل السنة العراقيين، ثم تدخلت في سوريا لتدعم نظام الأسد المجرم بكل إمكاناتها المالية والعسكرية، وذلك بالتحالف مع روسيا وتحت دعم طائرات الجيش الروسي، وحشدت ميليشياتها الطائفية من كل مكان لقتال وقتل السوريين الذين ثاروا ضد الظلم والطغيان والفساد، وطالبوا بالعدالة والحرية والكرامة، وعلى رأس تلك الميليشيات الطائفية التي شاركت في قتل وتهجير ملايين السوريين وتدمير مدنهم (حزب إيران في لبنان). كما تدخلت في اليمن لدعم الحوثيين الانقلابيين وتثبيتهم في السلطة، لترسيخ الفوضى السياسية والانقسام المذهبي والفساد في اليمن السعيد، ولجعل اليمن قاعدة جديدة تشن من خلالها إيران حربها الطائفية على السعودية ودول الخليج العربي. وبذلك أصبحت إيران اليوم قوةً معتدية محتلة لأربع بلدان عربية، بعد تدمير مدنها وقتل وتهجير أهلها من المسلمين السنة، وترسيخ حالة الفوضى السياسية والانقسام الداخلي والفساد المستشري في جميع مفاصل تلك الدول، وتشويه جوانب الحياة السياسية والاجتماعية فيها.