في عصر تحريف المصطلحات وتمييع المفاهيم، تجاوز الابتداع حيز الدين ليصل إلى حيز الدنيا أيضاً، فلم تعد البدعة مقتصرة على الابتداع في تعاليم الدين العقدية أو الفقهية أو الشعائرية والأخلاقية، بل وصلت إلى محاولة قلب الحقائق جهاراً نهاراً، ونقض البديهيات العقلية والمسلمات المنطقية والمعطيات الواقعية، وذلك لتزييف وعي المجتمعات وتضليل الجماهير لصالح خدمة الدعاية والسردية السياسية لهذا الطرف أو ذاك، وذلك اعتماداً على الكم الهائل من الأكاذيب وأساليب التضليل الإعلامي والتشويش العاطفي، حتى تحول أصحاب هذه البدعة ومقلدوهم أو المتأثرون بهم إلى كائنات تنكر ذاتها وواقعها، فلو قيل لهم أن الشمس تشرق من الغرب لصدقوا وآمنوا! لمجرد أن المدلس السياسي أو المضلل الإعلامي أو المحلل المحتال قال ذلك، فهو حقٌ ما وافق هواهم وسرديتهم. وإن اعترضت أو شككت فأنت صهيوني مؤيد للتطبيع، أو مهادن جبان وضعيف الإيمان في أحسن الأحوال. والأدهى والأمرّ من ذلك أنهم يبررون كذبهم وخداعهم لعقول الناس بمبررات واهية ينكرها كل مؤمن وعاقل.
ومن أهم منتجات صناعة الوهم حالياً، هو صناعة الانتصارات الوهمية الكاذبة، وجعل الهزيمة المحققة الواضحة نصراً مؤزراً، وهي بدعة قديمة، لكنها تظهر بقوة وبشكل أكثر وقاحة حالياً، والحقيقة أن هؤلاء المبتدعين مبدعون في تصوير النصر المفترض الذي لا وجود له إلا في خيالهم، وماهرون جداً في الفبركة والمراوغة واللف والدوران لإقناع الناس بنصرهم الغريب العجيب، فيستعملون المصطلحات والمفاهيم المفرّغة من مضمونها، ويسقطون الآيات والأحاديث على غير سياقها ومقصدها، ويحمّلون الأحداث ما لا تحتمل، ويخلطون الحابل بالنابل، ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ويستغلون مشاعر المؤمنين ويلعبون بعواطف الجماهير، ويهولون ويبالغون، ويختلقون أهدافاً لم تكن مرجوةً أصلاً ولم تكن في تصور أو توقعات أحد من المعركة. ويحدث كل ذلك بينما عدونا وعدوهم يتقدم على الأرض ويقطف رؤوس القادة والعناصر، ويرتكب المجازر والإبادات الجماعية، ويدمر المدن والبلدات، ولا يستجيب لأي مطالب أو دعوات، ولا يقبل شروط المفاوضات ولا التسويات المقترحة!! فإن كان هذا هو العدو المهزوم فكيف به إذا انتصر !؟!؟
ولعل أكثر المفاهيم والمصطلحات المائعة الزائغة التي تستخدم في هذه الصناعة، هو مصطلح ” استراتيجي “، والذي غالباً ما يربطونه بالنصر أو النتائج، فتسمع تعابير من قبيل ” نصر استراتيجي ” أو ” نتائج استراتيجية “، وهذا المصطلح غالباً ما يستعمل كغطاء شفاف لعورة الهزيمة أو التراجع أو عند عدم تحقيق أي إنجاز يذكر على أرض الواقع !!
وإن شكك أحدٌ بروايتهم للأحداث أو تحليلهم للوقائع، أو تساءل عن مدى جدوى استمرار الحرب أو مدى تأثيرها على العدو، فهو معادٍ للمقاومة، ومن المخذلين والمرجفين والجبناء الأذلاء، أو المتثاقلين إلى الأرض والفارين من الزحف، وأحياناً قد يخرجونه من الملّة! فأولئك المنتصرون في كل الهزائم والغالبون دائماً رغم تباكيهم وتراجعهم، لا يقبلون من غيرهم سوى الإقرار بدون أيّ تحفظ بانتصاراتهم الدائمة والمستمرة في كل الأحوال وأياً كانت النتائج !!
ما خطورة هذه البدعة !؟
تبرر النخب الإعلامية والسياسية ذلك النهج المضلل المزور للحقيقة والوقائع بمبررات وذرائع مختلفة، ويشرعنون كذبهم باستعارة النصوص الدينية والمرويات البطولية أو المقارنات التاريخية المضللة، تارةً تحت ذريعة “رفع المعنويات”، وقد كذبوا، لأن رفع المعنويات لا يكون بالكذب والتدليس والتضليل، وإلا فإن الأثر السلبي الذي سينعكس على المخاطبين سيكون مضاعفاً، فمن رفع سقف توقعاته فوق الممكن كان انكساره أقوى وخيبته النفسية أكبر، فيعود من هول الصدمة محطم الروح فاقداً للعزيمة، وذلك فضلاً عن فقدان الجماهير للثقة في قادتها ونخبها السياسية والإعلامية في المعارك والحروب القادمة، والأمثلة التاريخية والنماذج الماضية على هذا كثيرة جداً، ولا يتسع المقام هنا لذكرها.
وتارةً يغلّفون خطابهم وادعاءاتهم وسرديتهم بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بالجهاد والقتال ونصر الله تعالى للمؤمنين، والتي يسقطونها في غير موضعها، ويحرّفون معناها، ويجعلون أنفسهم المعنين بها حصراً دون بقية المؤمنين المسلمين، فيعدون أمتهم وشعبهم وحاضنتهم بنصرٍ محققٍ أكيد لا ريب فيه! ويمنونهم بهذا النصر الذي لم تتحقق شروطه الدينية فضلاً عن أسبابه الدنيوية! وهذا الجانب من الخطاب الساذج والمخادع هو الأخطر، إذ لا ينتج عنه تحطم المعنويات وفقدان الأمل وكسر المبادرة في المستقبل فقط، بل يتبعه موجةٌ من ضعف الإيمان بالله وسوء الظن به، وقد تصل إلى الكفر والإلحاد عند البعض -لا قدر الله-، وهو ما حدث في مشاهد تاريخية سابقة، وسيحدث الآن ومستقبلاً.
لكن هذا الظن والوهم لا يغني من الحق شيئاً !! فالحقيقة والعقل والمنطق يقول أن خسارة الأرواح والأرض بدون مقابل حقيقي وتحقيق هدف واقعي ملموس هو هزيمة محققة وليست نصراً، ومن يقول عكس ذلك فقد كذب على الله وعلى المؤمنين وكذب على نفسه، وإن كان مقتنعاً فهو مجنونٌ يخدع نفسه ويخدع غيره، وفي كلتا الحالتين فهو خائن للأمة وللأمانة بقصد أو بدون قصد، وخادمٌ لأعداء الله والمؤمنين شاء أم أبى !! إن القول بأن النصر يحتاج تضحيات – قد تكون عظيمة – من المسلمات والبديهيات الواقعية والتاريخية، وهي من سنن الله الجارية في خلقه، ولا يستنكر تلك الحقيقة مؤمنٌ ولا يجادل فيها عاقل، ولكن بشرط أن لا تذهب التضحيات عبثاً، وأن تؤدي التضحيات إلى نصر واقعي وليس وهميّاً! أما ما دون ذلك فهي الهزيمة حتماً، وهذا ليس عاراً وليس غريباً!! فالدول والأمم تنتصر وتهزم، والأيام دول، يوم لنا ويوم علينا، ولا ضير بالاعتراف بالهزيمة، فالمهم أن نستفيد من التجربة ونستخلص العبر وندرس أسباب الهزيمة وعواملها.
ومن العجيب أننا لا نجد لهذه البدعة نماذج وسوابق في تاريخ المسلمين !! فلم يقل أحد من المؤرخين أو العلماء أو عامة المسلمين عن غزوة أحد (625م) أنها كانت نصراً، ولا ادعى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه!! بل نزل القرآن بتبيان أسباب الهزيمة، وفيها آيات تحمل معاني العتاب والمواساة للمسلمين. ولم يقل أحدٌ عن معركة الجسر (634م) أو معركة بلاط الشهداء (732م) أو موقعة العقاب (1212م) أنها كانت نصراً !! نحن انتصرنا في موقعة الأرك (1195م) وهزمنا في العقاب (1212م)، وانتصرنا في وادي المخازن (1578م) وموهاكس (1526م) ونيقوبولس (1396م) وغيرها، وهزمنا في معركة ليبانتو (1571م)، ومعركة نافارين (1827م). نحن فشلنا في فتح القسطنطينية في حصارها الأول (674-678م)، وحصارها الثاني (717-718م)، ونجحنا وانتصرنا عندما تمكنا من فتحها عام (1453م). هزمنا في النكبة (1948م)، والنكسة (1967م)، وانتصرنا جزئياً في حرب (1973م)، وانتصرنا كليّاً في معركة الكرامة (1968م). ولم يدّعِ أحدٌ أننا انتصرنا عندما خسرنا الأندلس !! بل كان انتصارنا عندما فتحناها!! كل هذه الأمثلة تدل على أن المسلمين طوال تاريخهم كان صادقين مع أنفسهم قبل غيرهم، وأن التاريخ سيدون الانتصارات الحقيقية والهزائم المحققة من دون الاكتراث للكذب ومحاولات التزوير والتشويه والتحريف، فالنتائج هي خيرُ شاهدٍ على ما جرى، والعبرة بالخواتيم.
نقول ذلك ونحن نؤكد أن الهزيمة ليست عاراً !! المهم أن لا تكون الهزيمة نتيجة خيانة وتواطؤٍ مع العدو! أو نتيجة لسوء تقدير متعمّد، أو مؤامرة مبطّنة، وقبل ذلك كله فالأهم والأولى والأساس أن لا تكون نتيجة عصيان الله تعالى ومخالفة أوامره، أو موالاة أعداءه وأعداء المؤمنين، أو الثقة بهم والاطمئنان إلى وعودهم، فمن وثق بالمنافقين والمجرمين وأهل الغدر والخيانة، وأعداء الأمة والدين، فقد هُزم قبل أن يبدأ، وخاب أيّما خيبة، وأذاقه الله مرارة الخذلان.
أما أن تكون الهزيمة بسبب الفارق الكبير بالقوة، أو سوء التخطيط أو التقاعس عمّا يجب أو خذلان القريب والبعيد، فهي أمور جرت وتجري في كل زمان، وهذه أسباب وعوامل مفهومة، لكن هذا لا يعني تحويلها لفتحٍ وتصويرها كانتصار لمجرد حسن نية أصحابها أو حماستهم !! فتلك الطامة الكبرى!! والخير كلّ الخير في الاعتراف بالهزيمة، فكما أن الاعتراف بالمشكلة هو أول خطوات الحل، فالاعتراف بالهزيمة بدراسة أسبابها والاستفادة منها، يضمن عدم تكرار التجارب الفاشلة وعدم الوقوع في الهزيمة والخسران مرة أخرى! هذا ما تفعله الأمم الواعية التي تتمتع بالعقل السليم الرشيد والمسؤولية تجاه مصيرها وقضاياها، وهذا ما يدركه كل مؤمنٍ فطنٍ حذر يسعى لنصرة دين الله ونصرة أمته، والدفاع عن المظلومين والانتقام من الظالمين.
وإن (تقدم العدو) ليس نصراً في جميع الأعراف والمفاهيم التي عرفها البشر عبر تاريخهم، وإن مجرد قتال العدو والإثخان فيه ليس نصراً إذا لم يحقق نتائج فعلية وملموسة، حتى في العرف الإسلامي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بمواساة المسلمين العائدين من غزوة مؤتة حينما كان أهل المدينة يؤنبونهم ويصفونهم بالفرارين من الزحف، فكان رد رسول الله صلى اله عليه وسلم بالقول: “ليسوا فُرَّارًا، ولكنَّهم الكُرَّار إن شاء الله”، وذلك بقصد المواساة ورفع المعنويات، فلم يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة، ولم يدعِ النصر، بل تعامل مع الواقعة كما يجب، فالهزيمة أو التراجع ليس عاراً وليس أمراً مستنكراً إذا كانت له أسبابه ودواعيه المعقولة كما ذكرنا. وإن في قوله تعالى مخاطباً المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، إقرارٌ ضمنيٌّ بأن المؤمنين يمكن أن يهزموا وأن لا ينتصروا إذا لم ينصروا الله تعالى أو يحققوا شروط النصر، وتوجد في الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية دلالات على أن الله تعالى يمكن أن يسلط العدو على المسلمين وأن لا ينصرهم، وأن يبتليهم بإخراجهم من ديارهم وبالضعف والهوان أمام العدو، وهذا ما تكرر حدوثه في عدة مشاهد وحوادث خلال التاريخ الإسلامي، وهو ما يحدث الآن، وما يمكن أن يحدث في المستقبل أيضاً.
ونحن لا ندري حقيقةً كيف يفكر هؤلاء القوم!؟ فإذا كانوا يعتبرون مجرد إطلاق النار والمقاومة المسلحة بكافة أشكالها، والتسبب بخسائر بشرية ومادية في صفوف العدو نصراً وتقدماً لهم، وأن ذلك يمثل هزيمةً مدوية للعدو، حتى إن كان العدو يدمر البلاد ويقتل ويهجّر العباد بمئات الآلاف، فيصيب منّا أضعاف ما أصبنا منه، فضلاً عن تقدمه على الأرض، فيصبح أقصى أملنا وطموحنا استرجاع ما كنّا نملكه أصلاً !! ناهيك عن أننا لم نحرر أي شبر من بلادنا، وهذا هو الهدف الحقيقي والمفترض للمقاومة والجهاد. وهنا نقول ونتساءل: بهذا المنطق الأعوج نفسه لماذا يعتبر هؤلاء ما حدث عام 1948م، وعام 1967م، هزائم مدوية وصفحات سوداء في تاريخ الأمة العربية والإسلامية!؟ لماذا يسمونها النكبة والنكسة إذاً!؟ إذا كان مجرد مقاومة العدو والتسبب ببعض الخسائر البشرية في صفوف عساكره وضباطه هو علامة النصر ودليل الانتصار!! فحتى النكبة والنكسة شهدتا مقاومةً للعدو وحرباً معه، وقُتل فيهما العديد من جنود العدو الصهيوني، وخسر فيهما العدو أكثر من خسارته في طوفان الأقصى!! لماذا يتباكى هؤلاء إذاً على تلك النكسات والهزائم ليل نهار!؟ ألم يكن فيها أي نصرٍ (استراتيجي)!؟ تلك الكلمة السحرية المضللة التي يحبونها ويلجأون إليها بعد تفريغها من معناها كليّاً !! والحقيقة أنك في هذه الأيام وفي ظل هذه الفتنة، ومن أجل ترويج هذه البدعة في تعريف النصر، عندما تسمع مصطلح نتائج (استراتيجية) أو نصر (استراتيجي)، فاعلم أن معنى ذلك (ضمنياً)، عدم وجود نصر حقيقي ولا نتائج واقعية على الأرض!!! فعند وجود النصر الحقيقي لن تجد أحداً يحدثك عن النصر الاستراتيجي! وبوجود الردع الفعّال لن تسمع مصطلح الصبر الاستراتيجي! وبتحقق النتائج والأهداف الواقعية لن تحتاج لمناقشة الأبعاد الاستراتيجية! لأنه وباختصار: قول الحق والحقيقة لا يحتاج للكذب والمراوغة والتضليل والتدليس!! فمن ينتصر فعلاً ويتقدم على الأرض ويحقق نتائج واقعية ويسبب خسائر مباشرة وقوية في جانب العدو، لن يحتاج أبداً إلى التكلّف والتحذلق في الحديث واللجوء إلى ذلك الملاذ الاصطلاحي، بل سيتكلم مباشرةً وبكل فخر عن نتائج معركته الفعلية.
ولأنهم يهزمون، فهم مضطرون لابتداع تعريفٍ للنصر يتمتع بسيولة عجيبة، بحيث يسمح لهم بالانتصار أثناء التراجع وفقدان الأراضي والأرواح، ويجعلهم منتصرين وظاهرين على عدوهم الذي يقطف رؤوسهم أينما حلوا، ويتمدد أكثر فأكثر ولا يصيبه همٌ ولا نصب! خلا بعض الخسائر البشرية والاقتصادية التي تعتبر تبعات طبيعية وحتمية لأي حرب، سواءً انتصرت فيها أم هزمت!! هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن اقتصاد الكيان الصهيوني كان ومازال قوياً ولن تؤثر عليه مثل هذه العاصفة. لكنهم مع ذلك، وبسبب الإنكار والاستكبار، فقد أصروا على الترويج لهذا النصر الذي لم يعرفه البشر من قبل ولا يعترفون به!! ومن الجدير بالذكر أن هدفهم من إنكار الهزيمة أو التراجع وإصرارهم على سردية الانتصار ليس نبيلاً، فلا يُقصد بها وجه الله! ولا هي من أجل الأمة أو الشعب أو الوطن !! بل في سبيل هيبة دولةٍ ما! أو سمعة تلك الحركة! أو قداسة ورمزية ذاك القائد والزعيم !! فإنكار الهزيمة يعفي المسؤولين عنها من المحاسبة واللوم وتحمل التبعات !! فلا استقالة أو محاكمة ولا حتى اعتذار من الشعب والأمة، ولا تحمل لأي نوع من المسؤولية التاريخية!!
ومن أساليب الترويج لهذا النصر المزعوم، اختلاق أهدافٍ لم تخطر على بال بشر ولا أنزل الله بها من سلطان، بحيث يمكنهم أن يقولوا بتحقق هذه الأهداف، لأنه وببساطة لا يمكن إثبات أنها تحققت أو إثبات العكس!! فهي غير موجودة أصلاً، فلا دليل على حدوثها وبالتالي لا يمكن إنكارها، تماماً كمقاربة برنارد راسل الشهيرة – والتي استخدمها في سياق باطل لتبرير الإلحاد! – ولكنها تتفق هنا تماماً مع ما نريد قوله، فهو يزعم أنه لا يمكنكَ مطالبة أحدٍ ما بدحض وإنكار أن هناك إبريق شاي صيني يدور حول كوكب المريخ، إذا لم تثبت ادعاءك أولاً بأن هناك إبريق شاي يدور هناك أصلاً!! وهذا من قبيل الادّعاء بوجود أشياء غير قابلة للدحض تجريبيّاً وواقعياً!! وبالمثل فما الدليل على أن نتنياهو يعاني من صدمة وخوف الآن!؟ وما الدليل على صحة الادعاء بأن العدو مهزوم نفسياً، ويعاني من صدمة معنوية وأزمة وجودية!؟!؟ بينما يعلم كل من يتابع صفحاتهم وحساباتهم أنه لم يكن شعب الكيان الإسرائيلي واثقاً من نفسه ومن دولته وجيشه كما هو عليه اليوم !! بل تجاوز هؤلاء المبتدعون ذلك إلى ادعاء عكس الواقع المشاهد والنتائج الملموسة التي يمكن التحقق منها بسهولة وكشف بطلانها أمام العالم أجمع، فهم سيجاهدون لإقناعك – في عصر مواقع التواصل الاجتماعي – بأن الأسطوانات المعدنية الفارغة التي أطلقتها إيران وسقطت على تل أبيب، تمثل ضربة تاريخية للكيان وأنها هزّت أركانه!! وأنّ خسائرها البشرية والمادية والعسكرية (الصفرية!) لها أبعاد استراتيجية!! وأنت أيها المشاهد لا تفهمها ولا تدركها، حتى إن سقط بعضها أمام عينكَ في الأردن والضفة، ورأيت تأثيرها بنفسك في وسط منزلك كما حدث في بعض منازل الأردنيين والفلسطينيين!! أما الفلسطيني الوحيد الذي قتلته هذه الصواريخ العجيبة فهذا المسكين هو في عداد (الخسائر الجانبية)! ولم يكلف إعلاميو هذا التوجه أنفسهم حتى عناء نشر خبره والإعلان عن وفاته، كي لا يتعكر صفو تطبيلهم لأسطوانات إيران الفارغة!! وذلك فضلاً عن إعلام طهران للولايات المتحدة وإسرائيل بموعد ضربتها قبل ساعات، وذلك في ظاهرة تاريخية عجيبة لم يسبق لها مثيل في التاريخ العسكري ووقائع الحروب الحقيقية بين الأعداء المتحاربين، ولم تطبقها وتمارسها إيران وأذرعها مع ضحاياها في سوريا والعراق واليمن، فهناك الخسائر البشرية المحققة، ولا مكان للمصطلحات الاستراتيجية !! ويجب عليك أنت أيها المشاهد أن تنكر عقلك وتكذّب عيونك وسمعك، وتنكر كل البديهيات والمسلمات المنطقية المتعلقة بالحروب والانتصارات والهزائم، وأن تصدق سرديتهم، وإلا فأنت صهيوني ومطبع وجبان ومتخذال وعميل ومنافق و.. و… و .. إلخ.
ومعظم هؤلاء من المحللين السياسيين على قنوات ومنابر معروفة التوجه! وكل ما يتفوهون به لا يزيد عن كونه كلاماً للنفخ والمواساة السلبية !! كلامٌ يشبه كثيراً البروباغاندا والانتصارات الوهمية التى روجت لها أنظمة عربية زمن النسكة (1967) عن الجيش الذي لا يقهر، والعدو الذي ترتعد فرائصه!! وعن دهاء القائد المفدى والأسلحة الموعودة، وذلك قبل أن يتم سحق الجيوش العربية واحتلال الضفة وغزة والجولان وسيناء، فاحتل الكيان ثلاثة أضعاف مساحته قبل الحرب في ستة أيام فقط!!
ولكي ندرك الميزان السليم لتقييم النصر والهزيمة، فعلينا أن نلقي الضوء على نماذج لأمم ودول انتصرت فعلاً وفرضت شروطها في كبرى حروب القرن العشرين وما بعده، ولا شك أن أشهر نموذج يمكن أن تستحضره ذاكرتنا هو الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد موقف رئيس الوزراء البريطاني وبطل الحرب القومي لدى البريطانيين (وينستون تشرشل)، من عملية الإجلاء في ” دانكيرك ” عام 1940، حيث تمكن الجيش النازي الألماني من محاصرة جيوش الحلفاء من البريطانيين والفرنسيين في مدينة دانكيرك الساحلية، فكان يجب القيام بعملية إخلاء وإجلاء سريعة لأكثر من 300 ألف جندي بريطاني متواجدين في المدينة، ونقل أكبر عدد منهم بأمان إلى السواحل البريطانية، وإلا فلن يكون أمام الحلفاء سوى خيار مدمر وانتحاري وهو الاستسلام أو الأسر الجماعي أمام الحلفاء، وبالفعل وبطريقة إعجازية ومبهرة – اختلف المؤرخون في تحديد وتحليل أسباب نجاحها – تمكنت الحكومة البريطانية من إجلاء ثلث مليون جندي بريطاني من السواحل الفرنسية ونقلهم عبر القنال الإنجليزي بأمان إلى بريطانيا، فخرجت جموع البريطانيين إلى الشوارع وهي تهلل وتفرح بهذا الإنجاز الكبير والنجاح في إنقاذ جيش المملكة المتحدة وتجنب الاستسلام والتوجه إلى مفاوضات يفرض فيها هتلر شروطه، ولكن، وبخلاف المعتاد من استغلال هذه الإنجازات للتطبيل للحاكم والتسبيح بحمده، وعلى عكس المتوقع لدى القادة والرؤساء الذي ينتهزون هذه الفرص للتسويق لانتصاراتهم وإنجازاتهم وتعظيمها، خرج تشرشل في خطاب موجه للشعب ليقول بوضوح وصراحة تامة: “لا تربح الحروب بعمليات الإجلاء”!! وشدد على أن ما جرى هو نجاح لعملية إنقاذ جنبتهم الهزيمة، ولكن لا يجوز وصفها بالنصر!! وقد صَدَقَ، ولذلك انتصر فعلاً في نهاية المطاف، وانتصرت حكومته وشعبه في الحرب!
أما عن التاريخ الإسلامي الحديث، فهناك نماذج بيّنت طريقة الجمع بين الإيمان والجهاد وبين التصرف بحكمة مع إدراك لموازين القوى والإمكانات الواقعية ومقتضيات المصير والمآلات البعيدة، ففي ظل حرب الإبادة التي هدفت إلى إبادة مسلمي البوسنة، وبعد توقيع الرئيس المجاهد “علي عزة بيغوفيتش” على اتفاق دايتون عام 1995، توجه لشعبه بخطاب تلفزيوني وقال: “إن هذا الاتفاق ليس عادل ولكنه أعدل من استمرار هذه الحرب الظالمة!”.
هكذا يكون المقاومون الحقيقيون والقادة المخلصون، وهكذا يكون الجهاد بحكمة وبمسؤولية! ولولا ذلك القرار الذي اتخذه بيغوفيتش رحمه الله بعد جهادٍ ومقاومة لسنوات، لاستمرت إبادة مسلمي يوغوسلافيا بالقتل والتهجير، ولما حصلوا على دولة مستقلة (البوسنة والهرسك حالياً). وبالمناسبة، فلا يمكن المزاودة على القائد المجاهد بيجوفيتش الذي كان يشترك بنفسه في القتال ويشرف على الجبهات بشكل مباشر!!
ولأننا نريد النصر عاجلاً أو آجلاً، ولأننا نريد فهم ما يجري، فالحقيقة الصارخة والواقع – حتى الآن – يقول بكل وضوح: أن إسرائيل مازالت تتقدم وتنتصر منذ بداية الحرب، وقد حققت معظم أهدافها، بل وأكثر مما كانت وكنّا نتوقع للآسف الشديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإسرائيل لم تخسر هيبتها كما يقال! بل على العكس تضاعفت هيبتها العسكرية والاستخباراتية والسياسية في عيون العالم، خصوصاً بعد سحق واستئصال حزب إيران في لبنان خلال أقل من أسبوعين وقطف رؤس قادته ونخبة عناصره جميعاً بعمليات نوعية أدهشت المراقبين والعالم، وإهانة وإذلال إيران بقتل ضباطها عدة مرات وفي أماكن مختلفة، فضلاً عن احتلالها الحالي لمعظم قطاع غزة، وقد نجحت بتحييد حماس عسكرياً! وإن نتنياهو اليوم هو رجل مقدس ومبارك من الرب في عيون اليهود، وقد أصبح قرين “بن غوريون” المؤسس في نظر الشعب الإسرائيلي، وذلك على النقيض مما تدعيه وتروج له قناة التضليل المعروفة! ويروج له أبواقها ومحللوها! وإن الطرف الخاسر على كافة الصعد – استراتيجياً وتكتيكياً كما يحلو للبعض القول! – حتى الآن، هو الطرف الفلسطيني تحديداً، والعرب والمسلمون على وجه العموم. هذه هي الحقيقة، نقولها بشجاعة لأننا نريد النصر فعلاً، ولأن مواجهة الحقيقة وتحمل المسؤولية والتصرف بحكمة وبمقتضى الواقع هو أولى خطوات هذا النصر الذي نريد. ويجب التذكير بأنك عندما تعتمد دائماً على (وسائل إعلام العدو)، فتحتاج إلى استعارة مقال لكاتب إسرائيلي – لا نعلم إن كان مأجوراً !! – في صحيفة ما لإثبات انتصارك، أو استعارة استطلاع شعبي ما – لا نعلم مدى صحته – من مصدر غير معروف لإقناع حضانتك بالنصر الذي تحرزه، فأنت بالفعل في وسط الهزيمة !!! فهذا على الأقل يعني أن شعبك لا يصدقك ويصدق العدو!! وهو بحد ذاته هزيمة نفسية. وأقول أنه من السهل – بفضل الله – الحصول على استطلاع شعبي واقعي وحقيقي لموقف العدو والرأي العام الشعبي لديه، فيمكن لك الدخول إلى صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي -وخيار الترجمة متوفر!- لتعلم مدى الانهزامية التي يشعرون بها !!!
ونحن نتمنى من كل قلبنا أن تذل إسرائيل وتهان وتهزم، ولكننا لا نكذب على أنفسنا ولا على الناس !! نحن نفهم فقط بمعطيات الواقع لتحديد الطرف المنتصر في الحرب حتى الآن، ولا شيء آخر، ولا نجد مضاضة من الاعتراف بالهزيمة أو التراجع أو تقدم العدو، فمصارحة الشعب والأمة خيرٌ من فقدان ثقتها وكسر عزيمتها وتحطيم معنوياتها بتلك الانتصارات المهزومة!! لا نريد نصراً هذا ثمنه وهذه نتائجه!! لا نريد نصراً يخزينا أكثر من الهزيمة !! وليس هناك داعٍ للتبرير !! لا أحد ينتصر بالكذب !! من يكذب على نفسه وعلى شعبه وأمته، ويصنع الانتصارات الوهمية والإنجازات المزيفة، فهو يعيش أكبر هزيمة على الإطلاق. وإن الحفاظ على ما تبقى من العنصر البشري والحامل الاجتماعي للقضية الفلسطينية (الشعب الفلسطيني)، وإنقاذه من هذه المحرقة والإبادة، هو بحد ذاته نصرٌ فعلي في هذه المرحلة، ولا أدري من أين جاء هذا الاستهتار الفظيع والمخيف بالدماء!؟ ولماذا تكون دماء العرب المسلمين فقط خسائر تكتيكية، بينما يتم اعتبار مجرد اللوعة والخوف الطبيعي الذي قد يصيب مواطناً إسرائيلياً – هذا إن أصابه!- خسائر استراتيجية!؟ ولماذا يجب أن يذهب خمسون فلسطينياً من أهلنا مقابل صهيوني واحد!؟ ولا أعلم ديناً أو إيديولوجيا أو عرفاً يبرر تلك التضحيات العبثية نتيجة الاستمرار في معركة غير متكافئة على الإطلاق، فلا وجود حتى للحد الأدنى من توازن القوى، ولا الحد الأدنى من قوة الردع أو القدرة على معاقبة العدو، ويجب أن لا ننسى أن حفظ النفس من المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، وأن دم المسلم له قيمته وحرمته العظيمة عند الله تعالى، وكذلك ينبغي أن يكون عند عموم المسلمين! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحقيقة المرّة والفاضحة التي نرفض الاعتراف بها أن جزءاً كبيراً من تصنّع الانتصارات والمبالغة في تمجيد البطولات هو انعكاس لعقدة نقص داخلية تقرّ بالهزيمة، لكن لا تملك الإقرار بها إلا بإنكارها، فانتصارنا الوهمي وتضخيم بطولاتنا أصبح يتناسب طرداً مع حجم هزيمتنا وخسارتنا، وفي توصيف دقيق لمآساتنا النفسية واختلال تقييمنا وفقدان رشدنا، قرأت تغريدةً ساخرة – لكنها صحيحة للآسف – لأحد الصهاينة يقول فيها: “وكلما كانت هزيمتهم أكبر، كلما كانت قصص النصر والبطولة التي يرونها لأنفسهم أكثر ناريةً وتضخماً!!”. ورغم أنه يجب تمجيد البطولات بكل تأكيد لشحذ الهمم، ولكن لا يجب معها تمجيد الخيارات الانتحارية أو الغير مدروسة!! فالحكمة من الشجاعة، والشجاعة من دونها تهور!! والتهور يذهب بآلاف التضحيات البشرية والخسائر المادية من الأرض والأموال عبثاً، وبدون أي فائدة تذكر!! فالمطلوب هو النصر في نهاية المطاف وليس البطولة بحد ذاتها. وإن الأخذ بالأسباب يقتضي دراسة الظرف المناسب والمصالح المترتبة على أي خطوة، والإمكانيات المتوفرة ومدى القدرة على ردع العدو – في الحد الأدنى – وحماية المسلمين عندما يلزم الأمر، وعدم التعويل على أهل الغدر والخيانة وأعداء الله ورسوله والمؤمنين، وإلا كانت الهزيمة الحتمية والإبادة الجماعية والتراجع ألف خطوة للوراء على مختلف الصعد كما حدث ويحدث الآن! ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
لنكن واقعيين ونتعاطى مع الأحداث كما هي!! فإن ما حدث ويحدث هزيمة مدوية – إن لم تتدخل قدرة الله !! -، ونحن نخسر غزة وأهل غزة كلما استمرينا فيها، بل نخسر فلسطين والقضية الفلسطينية. رحم الله الشهداء ونسأل الله الشفاء للجرحى والفرج العاجل لأهلنا المحاصرين المنكوبين. طبعاً أسباب الهزيمة معروفة وواضحة لكل مؤمن حر شريف وعاقل .. وهي أسباب دينية بالدرجة الأولى! لكن لن نطيل أكثر من ذلك في الحديث عنها فهذا ليس الوقت المناسب! نقولها للآسف طبعاً .. ولكن هذه هي الحقيقة ..كفانا انتصارات وهمية كاذبة وخزعبلات استراتيجية نخدع بها أنفسنا.. الاعتراف أفضل من كافة النواحي وأسلم للعقل وخلال المواجهة.
وفي النهاية نسأل الله تعالى النصر الحقيقي والمؤزر، عاجلاً غير آجل، لأمتنا على جميع الأعداء والمحتلين والظالمين، في جميع جبهات الاشتباك، وعلى رأسها غزة وسوريا والعراق واليمن والسودان.