مقالات الرأي

” العدالة أو الفوضى خياران لا ثالث لهما “

عبد الله عبدون / كاتب سوري

إن الحديث عن مستقبل سوريا السياسي والأمني بعد أكثر من عقد من الصراع يقتضي الغوص في الجروح العميقة التي خلفتها الحرب. هذه الجروح ليست مجرد آثار دمار، بل هي شظايا لمحاسبة حقيقية تأخرت لسنوات طويلة. سوريا اليوم تقف على مفترق طرق لا يحتمل التساهل. إما أن تتجه نحو دولة تقوم على العدالة والمحاسبة، أو أن تواصل انزلاقها نحو التفكك والانقسام. مسألة العدالة ليست خياراً، بل ضرورة حتمية لضمان أي نوع من الاستقرار مستقبلاً.

من دون محاسبة فعلية لجميع مرتكبي الجرائم في هذا النظام، سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين، لن يكون هناك مجال لإعادة بناء دولة قادرة على الوقوف مجدداً. الذين ارتكبوا المذابح بحق الشعب السوري يجب أن يُعرضوا أمام محكمة دولية. فلتكن العدالة عنوان المرحلة القادمة، وليس فقط مصالحة وهمية يتم تمريرها تحت وطأة الضغوط الدولية. إن التغاضي عن هذه الحقيقة يعني ببساطة استمرار بقاء نظام القمع والظلم، وهو ما لا يمكن القبول به بعد كل هذه التضحيات.

التجارب الدولية قد أثبتت أن تغاضي المجتمع الدولي عن الجرائم الكبرى يؤدي إلى تفاقم الأزمات. في رواندا، بعد الإبادة الجماعية في عام 1994، كان المجتمع الدولي قد تأخر في التدخل. فقد أدى الإهمال الدولي والمحاسبة غير الكافية للمسؤولين عن الإبادة إلى سنوات من العنف والانتقام. بينما كانت محاكم “غاشاكا” التقليدية في رواندا خطوة نحو المصالحة، فإن المدى الطويل للعدالة لم يتحقق إلا عندما أُجبرت الأمم المتحدة على فتح محاكم دولية لمحاكمة المتورطين. تجربة رواندا تبرهن بوضوح على أن أي محاولة لتجاوز العدالة تُقوي فقط مشاعر الانتقام والغضب، وتؤدي إلى نتائج عكسية.

وفي جنوب إفريقيا، بعد انتهاء الفصل العنصري، طُرح مفهوم “لجنة الحقيقة والمصالحة”. ولكن حتى في هذا النموذج الذي قدم مساحة للاعترافات، كان هناك نقص في محاسبة المسؤولين على ممارساتهم. صحيح أن المصالحة ساعدت في تهدئة الأوضاع، لكنها كانت قاصرة عن معاقبة الجناة بما يكفي لضمان عدم تكرار الجرائم. هذا ما يجب أن نتجنب حدوثه في سوريا: المصالحة المبتورة التي لا تحقق العدالة الحقيقية، بل فقط تمنح الجناة فرصة للإفلات من العقاب.

المجتمع الدولي، بكل أبعاده، يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في تعقيد الأزمة السورية. استخدم مجلس الأمن الدولي كأداة في الصراعات الجيوسياسية، وأصبحت القرارات المعطلة بواسطة “الفيتو” أداة لحماية نظام يواصل قتل شعبه. لم يكن همّ القوى الكبرى تحقيق العدالة أو إنقاذ حياة السوريين، بل كان جلّ اهتمامها الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. روسيا وإيران ساعدتا النظام السوري في قتل المدنيين وتهجيرهم. التدخل العسكري الروسي لا يُعتبر مجرد دعم للنظام، بل كان بمثابة إغراق الشعب السوري في مزيد من الموت والدمار. لا يوجد مبرر واحد يتيح لأحد أن يتغاضى عن الجرائم التي ارتكبت تحت إشرافهم.

الولايات المتحدة، من جانبها، دعمت المعارضة في المراحل الأولى، لكنها تخلت عنها في اللحظات الحاسمة، وتراجعت عن أي خطوات جادة لحل الأزمة. انسحابها من بعض المناطق، وتركها عرضة للتدخلات الأجنبية، جعل الواقع السوري أكثر تعقيداً. لماذا تدخلت الولايات المتحدة إذاً؟ هل كان الهدف تدمير سوريا كمشروع دولة مستقل، أم أن لعبة المصالح أكبر من مجرد الاهتمام بحياة شعب كامل؟

في المقابل، إيران لم تكن سوى جزء من المشكلة. دعمها للنظام السوري كان بمثابة وقود لحرب مستمرة، بينما كانت تدّعي أنها تُساعد في استقرار المنطقة. أين هو الاستقرار؟ أين هي الحلول التي يمكن أن تخرج سوريا من هذا الجحيم؟ كل ما فعلته إيران هو تعميق الأزمة وزيادة الآلام.

إذا نظرنا إلى الموقف الأوروبي، سنجد أن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي كانت غير فعالة. كانت العقوبات تستهدف النظام، لكن الخاسر الأكبر كان الشعب السوري. هذا التخبط من قبل المجتمع الدولي يعكس الفشل الذريع في التعامل مع القضية السورية، والذي أدّى إلى جعل الأزمة أداة في معركة مصالح عالمية على حساب أرواح السوريين.

في الوقت الذي كانت فيه القوى الخارجية تتصارع على الأرض السورية، كانت المجازر تتوالى بحق المدنيين. من حلب إلى دوما إلى ريف دمشق، كانت المجازر اليومية تُرتكب دون أي محاسبة حقيقية. كيف يمكن لمجتمع دولي أن يتجاهل مئات الآلاف من القتلى والجرحى الذين سقطوا نتيجة قصف وحشي، وتدم

إنني لن ألوم أي مجموعة مدنية مسلحة إذا قامت بالقصاص من شبيح أو مجرم حرب إذا تأخرت عدالة القضاء والعدالة الانتقالية. إن المسؤولية في محاسبة هؤلاء المجرمين تقع على عاتق النظام القضائي الدولي وعلى المجتمع الدولي الذي يجب أن يتحرك بحزم وفاعلية. أما إذا تم التهاون أو التأخير في محاسبة هؤلاء المجرمين، فيجب أن يكون هناك رد قاسي، مثلما حدث في العديد من الدول التي تعرضت لحروب إبادة. إذا لم تتم محاكمة مجرم مثل مجرم مجزرة التضامن أمام محكمة العدل الدولية أو عبر آليات العدالة الانتقالية، فيجب أن يلقى عقابه في الساحات العامة، لا بل يجب أن يتم شنق هؤلاء المجرمين أو رميهم بالرصاص أمام الجميع ليكون عبرة. مشهد قاسي؟ نعم، لكنه ضروري كي يرى الجميع حجم الجرائم التي ارتُكبت، ولتحقيق العدالة المفقودة. النصيحة الوحيدة التي أقدمها: لا تتأخروا في المحاسبة، لأن تأخير العدالة يعني تكريس الفوضى والاستمرار في دورة الدم.

لن يكون هناك أي نوع من الاستقرار في سوريا ما لم تُفرض محاسبة حقيقية. فالقتلة يجب أن يُحاسبوا، والخائنون يجب أن يُعرضوا أمام القضاء. سوريا اليوم بحاجة إلى محاكمة عادلة لجميع المتورطين في هذه المجازر، وأي حديث عن تسوية أو مصالحة دون محاسبة حقيقية هو ضرب من الأوهام. لا يمكن للبناء السياسي أو الاقتصادي أن يبدأ في بلد مشبع بالدماء إلا إذا كان العدالة هي المبدأ الأول والأخير.

لا توجد أي فرصة للسلام إذا ظل مجرمو الحرب طليقين، وإذا استمر النظام في استغلال شعبه لتحقيق مصالحه الضيقة. لا يمكن بناء سلام دائم على جثث الضحايا ولا يمكن إصلاح مجتمع مكسور إلا عبر معاقبة الذين خربوا هذا الوطن. إذا كان الحل هو محاسبة المتورطين في القتل والدمار، فهذا هو الحل الوحيد الذي قد يفتح أبواب الحلول. أما غير ذلك، فإن سوريا ستظل أسيرة في دوامة الفوضى.

ير ممنهج للمنازل والمدارس والمستشفيات؟ هذا ليس مجرد صراع داخلي. هذا هو احتلال من قبل القوى الكبرى في كل زاوية من زوايا القرار السياسي الدولي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى