“من بلدة منسية إلى معضلة الصراع الدولي ” (إدلب قلعة الحراك الثوري السوري)
تحتل محافظة إدلب في سورية أهمية استراتيجية كبرى، تتمثل في موقعها على الطريق الدولي الواصل بين تركيا وسوريا والأردن والخليج، كما تمتلك أهمية خاصة على الصعيد المحلي حيث تعتبر بمثابة بوابة الانفتاح على البحر الأبيض المتوسط.
ازدادت أهمية المحافظة بعد الحراك الثوري عام 2011 م إذ أنها تعد آخر قلاع الثورة السورية والملاذ لملايين اللاجئين السوريين الذين هجروا قسرياً من ديارهم ومناطقهم بعد تصعيد نظام الأسد المجرم.
الموقع والأهمية الجغرافية:
تقع إدلب إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب وتبعد عنها 60 كم وعن اللاذقية 132 كم وعن دمشق 330 كم وعن حمص 168 كم وعن حماة 105 كم.
كما تعد مدينة إدلب المنطقة الإدارية الأولى في المحافظة، يوجد بها العديد من الأماكن الأثرية المميزة وبها متحف إدلب الذي يضم آثارًا من محافظة إدلب العريقة تاريخياً.
حظيت محافظة إدلب بموقع جغرافي متميز اقتصاديًّا وسياسيًا وتاريخيًا ودينيًا وإدارياً، فهي الممر الهام للقوافل القادمة من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال، وتبرز أهميتها الإدارية لموقعها بين العاصمتين الأولى أنطاكية عاصمة سورية الأولى، وآفامية عاصمة سورية الثانية في العهد البيزنطي، وجاورتها المدن التجارية الثلاث (حلب_ قنسرين_ اللاذقية)
وفي العصر الإسلامي كانت المراكز الرئيسية للقوات العربية لفتح مناطق الروم المتاخمة لها، وجعلوا من قنسرين عاصمة لجندهم.
العمق التاريخي:
كانت قرية إِدلب تتبع سرمين فيما مضى، وبدأت أهمية إِدلب الحالية بالظهور بعد أن اهتم بها الصدر الأعظم محمد باشا الكوبرلي (1583-1661)، فجعل مواردها وقفاً على الحرمين الشريفين وأعفاها من الرسوم والضرائب وأقام فيها مباني ما زالت قائمة إلى اليوم فقصدها الناس من جسر الشغور وسرمين والقرى المجاورة، فاتسعت وازدهرت على حساب إِدلب الكبرى التي طوي ذكرها.
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر غدت إِدلب تتبع جسر الشغور ثم أتبعت بأريحا ثم صارت مركز قضاء عام 1812م، ثم مركز محافظة في عام 1960م.
عانت إِدلب ما عانته بقية المدن السورية في أوائل القرن العشرين من المجاعة بسبب الحرب العالمية الأولى وأصابها الدمار وسيق رجالها إلى الجندية الإجبارية وصودرت أرزاقها وغلاّتها باسم الإعانة والإعاشة، كما عانت مرة أخرى من الاحتلال الفرنسي عندما اتخذها إبراهيم هنانو معقلاً لثورته على الاحتلال الفرنسي فقصفتها قوات الاحتلال بالمدفعية في 20 يناير 1920 واعتقلت معظم أهلها فتشرد الكثيرون في البراري، ثم عادوا إليها ثائرين فحرروا دار الحكومة، وظلت المدينة على مناهضتها للاحتلال حتى رحيل القوات الفرنسية عنها في 18 يناير 1945، وفي عام 1960 غدت المدينة مركز المحافظة.
المواقع الأثرية:
تضم إدلب عددًا كبيرا من المواقع الأثرية العائدة لحقب تاريخية مختلفة تمتد من الألف الثالثة قبل ميلاد المسيح عليه السلام إلى العصور الإسلامية، وتتميز بمساجدها المملوكية والعثمانية, وبأسبطتها وحماماتها الشعبية, ودورها العربية العائدة للقرن السادس عشر الميلادي كالجامع الكبير ودار الفتح الأهلية ودار العياشي.
تمتاز محافظة إدلب بواقع حضاري يميزها عن غيرها من المحافظات بخصائص نجملها بما يلي:
1_ الموقع الاستراتيجي الهام لهذه المحافظة كحلقة وصل حضاري بين الشرق والغرب وممر تجاري بين الشمال والجنوب.
2_ الضيعة الجميلة والأرض الخيرة المعطاء والتربة الساحرة والسكان القادرون على العطاء والدخل الاقتصادي الجيد، كل هذا وغيره جعل منها مركز ثقل اقتصادي عبر العصور.
3_ تعدد الحضارات وكثرة المواقع الأثرية إذ احصى المعهد الأثري الفرنسي بيروت الآثار الواقعة في جبل الأعلى وباريشا والدويلي والوسطاني ب 270 موقعاً، فكيف بجبل الزاوية والسهول الأخرى من المدن الميتة إلى القلاع والبروج إلى الأديرة والكنائس والمساجد إلى التلال الأثرية.
برأينا كلما عرف المواطن تاريخه كلما ازداد تمسكاً ببلده وأرضه واحتراماً لمنجزات أجداده وحفاظاً على أوابدهم الخالدة.
البلدة المنسية:
بعد الذي ذكرت عن إدلب وتاريخها أقول: ليست إدلب مدينة على هامش التاريخ بل إنها من أقدم المدن وأغناها بالآثار، إذ تحوي ثلث آثار سوريا، بعدد من المواقع الأثرية بلغ 760 موقعاً أثرياً مسجَّلاً، تعود إلى حِقَب زمنية مختلفة، أهمها كنيسة قلب لوزة وآثار جبل سمعان، وتشمل 40 قرية أثرية مسجلة على لائحة التراث العالمي، كما تضم محافظة إدلب أكثر من 200 تل أثري، تشكل 50% من التلال الأثرية السورية.
بعد انقلاب حافظ الأسد واستيلائه على السلطة تحولت كل المحافظة فعلًا إلى إدلب المنسية حيث كادت تكون ممسوحة من الخارطة، وهذا المسح تجلى في إهمال إدلب على كل الأصعدة صحياً واجتماعياً واقتصادياً، فقد كانت إدلب في عهد نظام الأسد تفتقر للحدود الدنيا من العناية والتنمية والاهتمام وكأنها ليست جزءاً من سورية. ونهج المسح ليس غريباً على هذا النظام، فوزير خارجيته المعلم مسح أوروبا كلها من الخارطة بداية الثورة!!
الحراك الثوري السوري عام2011م:
بعد اندلاع ثورة الكرامة عام 2011 م انخرطت إدلب في الحراك الشعبي السلمي حيث شاركت في المظاهرات وكانت تسجل أكبر عدد من نقاط المظاهرات آنذاك، ومن ثم الحراك العسكري للدفاع عن المدنيين وشارك أهلها بتحرير عدد كبير من المدن والمحافظات السورية، حيث برز فيها مئات الضباط الأحرار منهم مؤسس لواء الضباط الأحرار المقدم حسين هرموش، وصحيح أن إدلب لم تعد منسية وتتصدر عناوين الأخبار حتى أصبح رؤساء وقادة العالم يتحدثون عن إدلب، خاصة بعد عمليات التهجير بالباصات الخضراء من كل المناطق التي حملت آلاف السوريين المهجّرين قسراً من مناطقهم إلى إدلب وأريافها، حيث استقبل أهل إدلب المهجّرين وأصبحت المحافظة “سورية مصغرة” إلا أن هذا لم يشفع لأهلها بعد سيطرة سلطة الأمر الواقع عليها، لتعود إدلب متروكة تحت قبضة الجهات المسيطرة عليها كعقاب لأهلها على ذنب لم يرتكبوه، فمعظم الدول أوقفت المساعدات عن ساكنيها بسبب سلطة الأمر الواقع المسيطرة عليها، بل إن روسيا والنظام يقومان بهجمات وقصف على المحافظة بحجة وجود جهات متطرفة فيها علماً أن هذه الهجمات العسكرية لا تستهدف إلا المدنيين والمرافق الحيوية والخدمية والأسواق والمشافي فقط!
إدلب اليوم باتت قلب سورية الحرة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ولن يقبل التاريخ أي ذرائع خاوية في استهدافها أو إهمالها أو التغاضي عن ملايين السوريين الأحرار الذين اختاروها حضناً لهم ريثما يتموا ثورتهم ويعودوا إلى ديارهم كراماً منصورين.
وستبقى إدلب الغائب الحاضر في تاريخ شعب يكتب فجر مستقبل سورية التي نحلم وحلم بها شهداؤنا من قبل.
وستبقى إدلب الغائب الحاضر في تاريخ شعب يكتب فجر مستقبل سورية التي نحلم وحلم بها شهداؤنا من قبل.
ختاماً:
لقد صمدت إدلب بوجه النظام المجرم رغم كل حملات التصعيد التي شنتها القوات الروسية والإيرانية والمليشيات الأسدية لإخضاعها، وأثبتت للعالم أنها قلب الثورة السورية الحي الذي سيبقى ينبض بالحرية.
تركيا الحليفة للثورة السورية تولي إدلب أهمية كبيرة وتتمسك بها رغم كل الضغوطات الدولية والتصعيد على المدنيين، حيث يسكن نصف أهالي إدلب في المخيمات العشوائية ومراكز الإيواء في ظل ظروف معيشية واقتصادية صعبة وشح بالضخ الإغاثي.
المصادر والمراجع:
1_ كتاب إدلب البلدة المنسية
2_ كتاب الرحالة في محافظة إدلب ج1 /فايز قوصرة
3_ كتاب التاريخ الأثري للأوابد العربية الإسلامية في محافظة إدلب
بقلم: أ. بلال محمد الشيخ / كاتب سياسي