طـ.ـوفـ*ـان الأقـ*ـصى؛ وعامٌ من طـ*ـوفـ.ـان الآراء والانتقادات
د. ياسين جمّول أكاديميّ سوريّ
مع مرور عام على “طوفان الأقصى” تتجدد ضرورة النظر والمراجعة، وَفْقَ القانون الإلهي الذي بين أيدينا ونغفل عنه “لا تحسبوه شرّاً لكم؛ بل هو خيرٌ”؛ وعامٌ كاملٌ كان كافياً لدروس شتى من ذلك الحدَث الفريد من نوعه في المعركة مع العدو الصهيوني، بل كان كافياً لإحداث انشقاقات طولية وعَرْضِية في الأمَّة بعامَّتها وخاصَّتها من المثقفين والمتصدِّرين.
كما أن القراءة الصحيحة لأي نصٍّ شرعيٍّ أو أدبيٍّ تُلزمنا استحضار عدَّة عناصر؛ فلا ننتزع النصَّ من سياقه وإن انتهت بعض النظريات النقدية إلى “موت المؤلف”، ولا نُغالي في ليِّ أعناق المعاني؛ فالأمر في الحدث السياسي والعسكري لا يقلُّ عن ذلك تعقيداً ودِقَّةً من حيث وقوعُه، فيكون كذلك من حيث قراءتُه وتحليلُه.
وحيث إننا في سورية لا نبعد كثيراً عن فلسطين؛ من حيث المأساةُ في القتل والتشريد، وتشابُكُ الفاعلين والمؤثرين وأصحاب المصالح، ومن حيث العدوُّ الصهيونيُّ في قلب فلسطين وفي خاصرة سورية؛ قبل أن يكون من حيث الجغرافيةُ والانتماءُ إلى “شام شريف” فإننا لسنا بعيدين عن سياق عملية طوفان الأقصى، ولن نجازف إن شاركنا النظر فيه من زاوية قضيتنا وصراعنا مع نظام الأسد وحلفائه؛ وحسبي من ذلك أمران اثنان.
المفاجأة التي لا نُحسن!
ما زالت في أذني كلمة ضابطٍ منشقٍّ -وكان قائداً مميَّزاً رحمه الله- اشتكى إليَّ بعض الثوَّار في البدايات من تكتُّمه على العمليات وعدم ثقته بهم حتى الركوب في السيارات؛ فلما نقلت إليه العتاب أجابني: كيف أتكلَّم معهم وأنا أنزل من البساتين إلى المدينة فأسمع ما قلته في المعسكر من نسائنا في البيوت!
تضاربت الآراء بخصوص عِلْم إيران وحزب الله المسبق بعملية طوفان الأقصى؛ فتعجَّل كثيرون باتهام القسَّام بإطلاق العملية بإشارة من إيران لأهداف شتى؛ ولكنَّ عاماً انقضى كان كافياً لتأكيد أن قرار العلمية كان داخلياً في الجناح العسكري لحماس، دون حتى علم قيادة الحركة في الخارج، فضلاً عن المحسوبين حلفاء أو داعمين كإيران وحزب الله وغيرهما. وهذه المفاجأة هي التي حقَّقت للعملية كلَّ ما يمكن قوله من جوانب السَّبْق والظفر فيها، أيّاً تكن النتائج والتبعات.
وما أتعس حالنا بعد مرور ثلاث عشرة سنة ونحن نقرأ هذه الأيام عن عملية لتحرير مناطق من حلب باتت تتحدث بها النساء في البيوت والأطفال في المدارس، كما تحدَّثوا من قبل عن تحرير تل رفعت ومنبج ثم لم تكن؛ فلا أدري كم بقي للعملية من قيمة إن تحققت بعد الثرثرة والتطبيل الفارغ، لاسيما وأن التنصُّت والاختراق يُغني عن التطبيل والإشهار، ولا أحد يجرؤ على إنكار الاختراق في الصفوف؛ وليس ببعيد ما كُشف من عملاء الدول والأجهزة في صفوف هيئة تحرير الشام وهي المعروفة بالقبضة الأمنية والأذرع الاستخباراتية؛ فما بالك بسواها؟!
ثم لا نستغرب ما ذكره الدكتور خالد خوجة في لقاء “بصراحة” عن تسريب محاضر اجتماع الهيئة السياسية في الائتلاف إلى مخابرات نظام الأسد منذ سنوات! ولا ما يحصل في كثير من الوزارات والمؤسسات من تسريب الاجتماعات إلى صفحات الفيس قبل أن يصل كامل الأعضاء إلى بيوتهم!
الحُبّ بِكَلَف والبُغض بِتَلَف!
عرفنا في تراثنا وواقعنا المعاصر شواهد عديدة للرفع جملةً عند المحبَّة والإعجاب، والإسقاط جملةً عند البغض والكراهية؛ فإما أن تقدِّس ابن تيمية وإما أن تكفِّره، وإما أن تأخذ من الأصفهاني في أغانيه الأدب والتاريخ عن عمى وإما أن تُسقطه وتنحره بسيف الأعظمي (لوليد الأعظمي كتاب “السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني”). وليس ببعيد ما صار يشهره بعض المتصدِّرين اليوم في تصنيف الناس بحسب هواه: إما أن تحبَّ حسن نصر الله وتترحم عليه وإما أنك “متصهين” تحبُّ “إسرائيل”!! فيردُّ آخرون: كلُّ مَن يترحم على حسن نصر الله شيعيٌّ إيرانيٌّ عدوٌّ لله ورسوله!! وما أكثر ذلك في الأعلام والحركات على مدى تاريخنا وواقعنا. مع أننا جميعاً نؤمن ونسلِّم لدستور الشرع “ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على ألَّا تعدلوا؛ اعدلوا هو أقرب للتقوى” و “إذا قلتم فاعدلوا…”.
من الذكريات المضحكة المبكية أن أحد قادة الفصائل السورية حضر مؤتمر أنطاليا 2013، فلما رأى فلاناً وكان رئيس جهاز إحدى الدول الخليجية عانقَه وقبَّل رأسه إجلالاً لهذا “الشيخ”؛ وَهْماً منه أن اللحية والثوب لمشايخ الدِّين والطُّرق، وفاته أنه لباس وطني تقليدي يلتزمه السياسيون وقادة الأجهزة في تلك الدول، وأن كلمة “شيخ” التي يُنادى بها للبُعد القبلي في العائلة الحاكمة لا للبُعد الديني!!
مع التلاحم الشديد بين القضيتين الفلسطينية والسورية، وتجذُّر حبِّ فلسطين في قلوب السوريين؛ فإن صِلَة فصائل المقاومة الفلسطينية بإيران وميليشياتها شوَّشت كثيراً على صورتها عندنا، وكان هذا مفهوماً حتى من قادة حماس خاصة ويتحدثون به في الجلسات تحت الهواء ويعذرون السوريين في نقدهم إيَّاهم، ويلتمسون العذر لهم في صلتهم الآثمة تلك. حتى كان هلاك حسن نصر الله بشكل خاص؛ ففرح السوريون بهلاك مَن أَشْهَر أول سكِّين طائفية في نحورهم، فقام فلسطينيون وعرب آخرون بتخوين السوريين لفرحتهم بمقلته، وصار محلَّ مفاصلة وولاء وبراء.
وتأسيساً على ما سبق من إشارات أؤكد -وأنا السوريُّ انتماءً الشاميُّ الفلسطينيُّ هوىً وولاءً- أننا نحبُّ القسَّام وفلسطين؛ نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، ولكننا نكره إيران الولي الفقيه ونحارب ميليشياتها الطائفية التي لم نعرِفْها إلَّا في حربنا وترويعنا وتهجيرنا من ديارنا. وأكون صريحاً فأقول: ليس بيدنا أن نقدِّم لكم ما يغنيكم عن دعم إيران؛ فاستفيدوا من دعمها ولكن لا تكونوا -من حيث لا تشعرون- أداة في مشروعها فإن مشروعها طائفي تخريبي مدمِّر، وما أكثر حركات الجهاد والتحرر التي استفادت من دعم الدول ولم ترتهن لها؛ وما حركة طالبان عنا ببعيدة، وإن كانت أكثر الشواهد على الارتهان للتمويل حتى يصل إلى درجة الارتزاق؛ كما هو حال بعض الفصائل في سوريا وقبلها في العراق وأفغانستان وغيرها.
على ألَّا يصل الطرفان إلى التخوين الذي لا رجعة فيه؛ فمَن اتهم كلَّ مَن يفرح لمقتل زعيم حزب طائفي أنه “متصهين” رغم أنه ما فرح إلا لأنه فقدَ بعض أهله بسكاكين عناصر ذلك الحزب، وخسر بيته وأملاكه وهُجِّر من وطنه بسببه؛ كيف يجرؤ على مثل ذلك وهو في بحبوحة العيش الآمن الرغيد! ومَن غالَى فاتَّهم مَن لا يفرح أنه متشيِّع تابع لإيران دون أن يقدِّر ظروفه إن لم يعلن ويمجِّد؛ لن يشفع له حُسن قصده وحميَّته.
ولا ننكر الحماقة التي حصلت من بعضهم في الشمال السوري؛ فحمَّلوا أطفالاً أبرياء لافتات تشكر نتنياهو على ما فعل بحسن نصر الله؛ فإننا نكره حسن نصر الله لإجرامه فينا وفي غيرنا، ولا يقلُّ عن ذلك كرهنا نتنياهو لإجرامه بحقِّ إخوتنا الفلسطينيين.
لا تُدار العلاقات الدولية وَفْقَ الأهواء والعواطف؛ فلغة المصالح أعلى وأكثر حضوراً واعتماداً مهما كثرت النظريات وتعددت في العلاقات الدولية، ومع الأسف فنحن في موضع دون الفاعلية حتى في ساحات دولنا الداخلية؛ فما أحوجنا للتروِّي والتثبُّت وتقليل المشاكل والأعداء، والثبات على المبدأ لا يعني بحالٍ الجمود؛ فإنها تكون حينئذٍ هوية قاتلة.
لن ينقص حبُّ فلسطين من قلوب السوريين فالقضية الفلسطينية قضيتنا؛ ولكن لن يخدعنا إعجاب بعض الفلسطينيين بإيران فنغفل عن كون مشروع إيران “الولي الفقيه” لا يقلُّ خطراً عن المشروع الصهيوني، وأنهم لم يتفقوا يوماً كما اتفقوا على انتهاك حُرمة سورية ودول المنطقة واستباحة دماء السوريين والعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين.