اجتمع كبار ووجهاء القبائل العربية في مكّة قبل الإسلام في دار عبد الله بن جدعان، وكان الهدف من اجتماعهم تحقيق العدالة، والدفاع عن حقوق المظلومين، وسمي هذا الجمع بـ “حلف الفضول”، وقد كان سبب هذا الحلف هو تعرّض أحد التجّار للظلم من قِبل أصحاب الصولة والجولة من شيوخ قريش.
وقد أقسم المجتمعون على نصرة المظلوم حتى يأخذ حقّه، وضمّ هذا الحلف شخصيات عظيمة ومؤثرة في مكة من أهمّها وأشرفها نبينا محمد ﷺ، الذي كان حينها شابّاً يافعاً قبل بعثته الشريفة.
وعلى الرغم من أنّ هذا الحلف قد حدث في الجاهلية، إلّا أنّ نبينا محمد ﷺ أثنى عليه بعد بعثته، وقال إنّه لو دُعي إليه في الإسلام مرّة أخرى لأجاب، وهذا الحلف يعكس تقدير ونخوة أهل الجاهليّة الكفّار الأمييّن في ذلك الوقت للمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة، ورفضهم القاطع للظلم والهوان والذلّ، وهذه هي الأخلاق التي تتوافق مع قِيم الإسلام في نُصرة الحقّ ومقاومة الظلم، بل تتوافق مع جميع الرسالات التي جاء بها رسلُ ربّ العالمين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ونحن الآن على بُعد 1450 سنة من ذلك الحلف، والإسلام قد انتشر بتعاليمه السمحة الراقية انتشاراً منقطع النظير، فعدد المسلمين يقترب من مليارين. إضافة إلى تلك المنظّمات والجمعيات والمؤسسات الحقوقية والإنسانية والمحافل الدولية والأممية، والتي تساهم وتساعد في تعزيز مكانة الإنسان وحريته وكرامته وحقّه وحرمة دمه وماله وعرضه وأرضه.
ورغم ما ذكرنا من تأكيد الحقوق الإنسانية بكافّة صُورها لدى جميع الأنظمة والقوانين الإلاهيّة والوضعية، إلا أننا اليوم نعيش أمام أزمة إنسانية حقيقية، حيث يقوم عدوان أشر هو كيان سرطاني خبيث مزروع في أرض فلسطين ولعقود من الزمن بجميع الانتهاكات التي لا يتصورها عقل أو دستور، ومع كلّ ذلك تجد تلك الدول الغربية التي تصدح بمناداتها بحقوق الإنسان، تلك الدول هي الداعمة الرئيس للعدوان الصهيوني الغاشم على أرض فلسطين منذ 75 سنة، وما تزال تحقنه بالبغضاء والحقد والغلّ وتمدّه بالعنصرية والعدوانيّة.
والذي أراه أنّ كلّ ذلك منطقي في لغة النديّة والخصومة، فمن الطبيعي أن يكيد الخصم لخصمه، وعدونا ظاهر يُعلن عداوته للإسلام والمسلمين ويرفع رايته بذلك.
ولكن من غير الطبيعي والمنطقي أن تتكفل حكومات المسلمين والعرب بقتل أتباعها وشعوبها، بطرق مباشرة وغير مباشرة، عبر العمالة للأعداء، والسكوت عن ممارساتهم الظالمة، وتأييدهم في عدوانهم وظلمهم.
تلك الحكومات هي التي تولّت زمام أمورنا، وقبعت على أنفاسنا ومخانقنا، وهي التي تدّعي أنّها مُسلمة أو عربية، فتؤمن بكتابنا القرآن ونبينا محمد ﷺ، وتتجه إلى قبلتنا، وتنادي بشعائرنا وتؤدّي مناسكنا. هي تلك الحكومات التي تقهر الشعوب المسلمة والعربية بانصياعها للشيطان الأكبر أمريكا وربيبته إسرائيل، وتعمل جاهدة على خذلان المظلومين من أبنائها في فلسطين وغيرها من الشعوب المسحوقة في بلاد المسلمين.
وبعد كل ذلك تقوم هذه الدول وبدم بارد تستنفر حكّامها بعد 400 يوم من القتل الصهيوني الممنهج لأبنائنا وإخواننا في غزة لتجتمع في عاصمة البلاد الإسلامية، فتقصف العدو الصهيوني بالكلمات الناريّة، وتسحقه بالنظرات الحادّة، وتفجّر كيانه بالصور التذكارية، وتحاصره بابتسامات القادة الصفراوية، ثمّ بعد ذلك تعود إلى قواعدها آمنة مطمئنة قد أدّت الواجب وزيادة، فتستقبلها الشبيحة والبلطجية والفتوات في المطارات بالتأييد وإشارات النصر والصيحات البطولية: “الموت لأمريكا والموت لإسرائيل”.
هل رأيتم أو سمعتم وخلال 400 يوم اجتماعاً لحلفاء إسرائيل قام للتنديد أو الشجب أو التأييد أو المناصرة ولو لساعة واحدة؟!
لقد كانت محالفة أعدائنا لبعضهم هي أفعال تسبق الأقوال، ومشاهد تسبق الوعود والوعيد، لقد عملوا حرفياً بمبدأ خلفاء وأمراء المسلمين حين يسمعون أنّ أحد المسلمين قد ظُلِم أن يرسلوا للظالم: “الردّ ما سترى لا ما ستسمع”.
لقد تحركّت البوارجُ الأمريكيةُ بعد مضي 24 ساعة عن بدأ طوفان الأقصى، وأبدت الدول الغربية التأييد الكامل والاستعداد التام لأيّ أمر يقع على عاتقها، فالحرب في الشرق الأوسط والاستنفار في دول الغرب.
بينما تجد استنفار الكلمات والخطب والوعظ على قدم وساق لدى أبناء المسلمين والعرب إلا من رحم ربي، وتجد ملاحم اللوم والإرجاف لأبناء فلسطين لا تغادر ندواتهم، بل إنّ البعض منهم قام بإصرار واستعلاء بمعاداة أهلنا في غزة، وأعلن الدعم لإسرائيل والتطبيع معها سراً وعلناً.
هل تغيرت مُخرجات القمّة العربية والإسلامية عن سابقاتها منذ سبعة عقود؟
هي ذاتها نفس الورقة ونفس النتائج، ولكن تغيرت بعض الوجوه والتواريخ، بل إنّ بعض الوجوه المنتنة العميلة ما زالت تحضر هذه المحافل، كعائلة الأسد التي قتلت وشردت واعتقلت وانتهكت وفجعت جميع أبناء سورية منذ خمسين عاماً، فتجد اليوم العميل الأدسم لإسرائيل يخطب أمام أصحابه في القمّة عن الأخلاق والكرامة وحرمة الدماء، وهو من نكّل بأبناء فلسطين في سورية، ووالده الملعون نكّل بأبناء فلسطين في بيروت، وبعد ذلك يدعونه ليتفوه بالكفر والنفاق جهاراً نهاراً.
وفي نفس القاعة التي جمعت حكّام المسلمين حاكم دولة المجوس الإيرانية، وهي الدولة التي أذاقت أربع من البلاد عربية ويلات الحروب وخربّتها، بلادٍ حكّامها يسمعون ويشاهدون رئيس تلك الدولة بينهم، فقد دمّرت إيرانُ “اليمنَ والعراقَ وسوريةَ ولبنانَ” يعني أكثر من سُدس البلاد العربية، وهي ماضية في مشروعها الصفوي المجوسي التوسعي.
فإن كان بين تلك الدول الحاضرة شرفاء وكرماء – ولا أستبعد ذلك – فعار عليها أن تستقبل إيرانَ ورأسَ النظام السوري في تلك القمة، التي عُقدت لأجل غزّة المصابة ونصرتها، فقد لاقى أبناءُ فلسطين ما لم يلاقوه من العدو الصهيوني الظالم في مُعتقلات النظام السوري المجرم في أجهزة الأمن والمخابرات (فرع فلسطين وفرع المنطقة وفرع الخطيب وفرع المخابرات الجوية).
وإن كان الحاضرون أشباهَ رأسِ النظام السوري، فعارٌ وكلّ العارِ علينا نحن كشعوب أن نقبل بمن يقتلنا ويهيننا ويبيعنا ثمّ يحاضر عنا في تلك المجالس.
فأين نحن الآن من أخلاق الجاهليّة الصادقة الكريمة! التي تحمل في معانيها كلّ عوامل البطولة الشجاعة والمروءة وإغاثة الملهوف والنخوة والنصرة والغيرة والشهامة؟!
فشتان شتان بين رجال في عصر الجاهلية شَهِدَ لهم كلام النبوة الشريف بنبلهم وأصالتهم ورجولتهم فقال ﷺ: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحبُّ أن لي به حُمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت”. وبين أنصاف رجال وفي قمة للمسلمين شَهِدَ عليهم كلام النبوّة بالخذلان والنقيصة والهوان، قال رسول الله ﷺ “ما من مسلمٍ يَخذِلُ امرأً مسلمًا في موضِعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه ويُنتقَصُ فيه من عِرضِه؛ إلّا خَذَلَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه، وما من امرئٍ ينصرُ مسلمًا في موضعٍ يُنتقَصُ فيه من عرضِه، ويُنتهكُ فيه من حُرمتِه؛ إلا نصرَه اللهُ في مواطنَ يُحبُ فيه نصرتَه”.
ملياركم لا خير فيه كأنما كُتِبَتْ وراء الواحد الأصفارُ